أولى
القرآن عناية خاصة بالمؤسسة الأسرية، وشرع لها من الأحكام ما يضبط أمرها،
ويُسدد مسيرتها، لتحقق المهام المرتبطة بها على الوجه الأكمل والأرشد،
والمتمثل في بناء مجتمع صالح، يكون فيه المسلم شاهداً على الناس، وساعياً
لكل خير.
ومن هذا المنطلق يأتي قوله تعالى: { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم }
(النساء:34). فالآية تصرح بقوامة الرجل على المرأة، وتعلل هذه القوامة
بأمرين: أولهما: تفضيل الرجل على المرأة ببعض الأمور. ثانيهما: واجب
الإنفاق المالي عليها.
والذي نبتغي الوقوف عنده بداية النظر في سبب نزول هذه الآية، ثم نسلط الضوء على المقصود من قوامة الرجل.
ما
يذكره المفسرون بخصوص نزول هذه الآية يدور حول حدث واحد، حاصله: أن رجلاً
لطم امرأته - وبعض الروايات تذكر اسم الرجل وتلك المرأة -، فأتت النبي صلى
الله عليه وسلم، فجعل لها القصاص منه، فأنزل الله: { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم }، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فتلاها عليه، وقال: ( أردتُ أمراً، وأراد الله غيرَه ). هذه الرواية جاءت بطرق عدة مرسلة عن عدد من التابعين، منهم الحسن ، و قتادة ، و السدي . وذكرها الرازي عن ابن عباس رضي الله عنهما من غير إسناد.
و السيوطي بعد أن ذكر بعضاً من الروايات الواردة بخصوص سبب نزول هذه الآية، قال: فهذه شواهد يقوي بعضها بعضاً.
وذكر ابن عاشور أن سبب نزول هذه الآية ما قاله بعض نساء المؤمنين - ومنهم أم سلمة رضي الله عنها -، قالوا: (أتغزو الرجال، ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث؟)، فنزل قوله تعالى: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } (النساء:32)، إلى قوله: { الرجال قوامون على النساء }. رواه أحمد وغيره، من غير ذكر قوله سبحانه: { الرجال قوامون على النساء }.
وعلى الجملة، فإنه لم يصح حديث مرفوع في سبب نزول هذه الآية، وحاصل ما ورد فيها ما تقدم من روايات مرسلة عن عدد من التابعين.
وما
دام لم يثبت نص صريح وواضح في بيان سبب نزول هذه الآية، يحدد المراد منها،
فإن الأمر يستدعي إعمال الفكر والنظر لبيان معنى القوامة الوارد في الآية؛
وفقاً لضوابط الشرع في فهم النصوص، وما يوافق المقصود من تشريعها. وهذا
المسلك لا يعني غض الطرف عن الروايات الواردة بخصوص سبب نزول الآية
الكريمة؛ إذ ليس ثمة ما يمنع من الاستئناس بها.
فإذا
توجهنا تلقاء تحديد المراد من قوامة الرجل على المرأة، قلنا: إن من
المُسَلَّم به ابتداء، أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله. وأن الله
سبحانه لا يريد أن يظلم أحداً من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة،
ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة.
والقوامة
التي قررها القرآن للرجل على النساء هي قوامة لها أسبابها من التكوين
والاستعداد. ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات. ولها أسبابها من
العدالة في التوزيع من ناحية؛ وتكليف كل شطر بالجانب الميسر له، والذي هو
معان عليه بمقتضى الفطرة. ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها، معان
عليها، مكلف تكاليفها. وأحد الشطرين غير مهيأ لها، ولا معان عليها. ومن
الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى.
إن
هذه القوامة التي جعلها القرآن للرجل على المرأة ليست قوامة من شأنها
إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع، وإنما هي قوامة وظيفية داخل
كيان الأسرة؛ الغرض منها إدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها.
ولا يخفى أن وجود القَيِّم في مؤسسة ما، لا يلغي وجود، ولا شخصية، ولا حقوق
الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها.
إذا
تبين هذا أضفنا إليه: أن الرجال يقومون على شؤون النساء بالحفظ والرعاية
والكلاءة والحماية؛ فيقوم الآباء على رعاية بناتهم والمحافظة على أنفسهن
وأخلاقهن ودينهن. ويقوم الأزواج على شؤون زوجاتهم بالحفظ والرعاية والحماية
والصيانة. وبالتالي، فإن قيام الرجل على شؤون الزوجة ليس فيه رياسة، إنما
فيه حماية ورعاية، وهو من قبيل توزيع التكاليف، فإذا كان للرجل رياسة عامة،
فللمرأة أيضاً رياسة نوعية.
والمهم
أن نعلم، أن هذه الرياسة ليست رياسة تشريفية سيادية، وإنما هي رياسة
وظيفية إجرائية؛ غايتها الأساس حفظ المؤسسة الأسرية وصيانتها من الانهيار
والدمار.
وقد
حدد الإسلام في مواضع أُخر صفة قوامة الرجل، وما يصاحبها من عطف ورعاية،
وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله. { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } (الأحزاب:4).