بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2001-04-03
<P class=artical align=justify>
إن فهم الإشارات الكونية في كتاب الله على ضوء ما تجمَّع للبشرية اليوم من معارف, وتقديمها للعالم كواحد من الأدلة العديدة على أن القرآن الكريم هو كلام الله الذي أنزله بعلمه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, والذي حُفظ بحفظ الله بنفس اللغة التي أوحي بها بدقائق حروفه وكلماته وآياته وسوره يعتبر فتحاً جديداً للاسلام, وإنقاذاً للبشرية من الهاوية التي تتردى فيها اليوم بسبب تقدمها العلمي والتقني المذهل، وتضاؤل روح الإيمان بالله, وانعدام الخشية من عذابه في نفوس القطاع الأكبر من الناس خاصة في أكثر المجتمعات البشرية المعاصرة أخذاً بأسباب التقدم العلمي والتقني, فأغلب المجتمعات البشرية في الدول غير المسلمة تعاني اليوم من انفراط عقد الأسرة, والتقنين للممارسات الجنسية بدون أدنى رباط, فكثر حمل المراهقات, وأبناء الزنا, والأسر ذات العائل الواحد, وتفشت الأمراض والأوباء والعلل مما لم يكن معروفاً من قبل, وقننت الحكومات والتشريعات للعلاقات الشاذة, وصرحت بتبني الأطفال، وتنشئتهم في وسط الشواذ, وهي عملية مدمرة للفطرة الانسانية، فكثرت الأزمات النفسية وأمراضها, وتضاعفت معدلات كلٍ من الإدمان والجريمة والانتحار, ومُلئت أكثر المجتمعات البشرية ثراءاً وتطوراً مادياً بأخطر مشاكل المجتمعات الانسانية على الإطلاق . ومن هؤلاء الذين لايعرفون لهم أباًً, والذين خرجوا إلى الحياة بطرق غير مشروعة, ونشئوا في بيئات فاسدة، وبين سلوكيات منحطة وضيعة من يمكن أن يصل إلى مقام السلطة في دول تملك من تقنيات ووسائل الغلبة المادية, من مختلف أسلحة الدمار الشامل ما يعينه على البطش بالخلق , وإفشاء الظلم , وتدمير الحياة على سطح الأرض , وإفساد بيئاتها والقضاء على مختلف صور الحياة فيها , ولا يجد من دين أو خلق أو منطق أي رادع يمكن أن يرده عن ذلك .
وأغلب وسائل الإعلام في العالم قد وقعت اليوم في أيدي اليهود, في مؤامرة خسيسة على الانسانية ـ واليهود هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا بصفة خاصة، وللانسان غير اليهودي بصفة عامة ـ فوظفوا كافة تلك الوسائل الاعلامية في تدمير البقية الباقية من عقائد، وأخلاقيات، وسلوكيات المجتمعات الانسانية, وفي تشويه صورة الإسلام في أذهان الناس؛ وذلك لأن مما يسوءهم أن يروا الاسلام ينتشر في مجتمعاتهم المريضة في الوقت الذي يتصورون فيه أنهم قد أحاطوا بالإسلام والمسلمين إحاطة كاملة .
ويقبل على الاسلام في الغرب والشرق قمم الفكر والعلم والرأي؛ لأنهم يرون فيه المخرج الوحيد من الوحل النتن الذي غاصت فيه مجتمعاتهم، والذي يعيشون فيه إلى أذقانهم في غالبيتهم الساحقة, ووسيلتنا في تحسين صورة الإسلام في العالم هي حسن الدعوة إليه بالكلمة الطيبة, والحجة الواضحة , والمنطق السوي ، وخير ما نقدمه في ذلك المضمار مما يتناسب مع طبيعة العصر ولغته هو الاعجاز العلمي للقرآن الكريم؛ لأننا نعيش في زمن أدار غالبية الناس ظهورهم فيه للدين, ولم تعد قضايا الغيب المطلق من بعث بعد الموت , وعرض أكبر أمام الله الخالق, وخلود في حياة قادمة ـ إما في الجنة أبداً , أو في النار أبداً ـ وغيرها من قضايا الدين لم تعد تحرك فيهم ساكناًً , ولكنهم في نفس الوقت قد فُتنوا بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة , فإذا أشرنا إلى سبق للقرآن الكريم في الاشارة إلى عدد من حقائق الكون قبل أن يصل الانسان إلى شيء منها بعشرات المئات من السنين , وهو الكتاب الذي أُنزل على نبي أمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, فإن ذلك سوف يحرك عقولهم وقلوبهم , وسوف يحضهم على الاطلاع في كتاب الله الذي ما أطلع عليه عاقل إلا ويشهد له أنه لا يمكن أن يكون كلام أحد غير الله الخالق ـ سبحانه وتعالى . وفي ذلك تحييد لحجم الكراهية الشديدة التي غرستها وسائل الإعلام الدولية للإسلام والمسلمين في قلوب الملايين, ودعوة مستنيرة إلى دين الله، وما أحوجنا للدعوة لهذا الدين الخاتم في زمن التحدي بالعولمة الذي نعيشه , والذي يتهدد كافة شعوب الأرض بالذوبان في بوتقة الحضارة المادية الجارفة.
ولا يمكن أن يصدنا عن ذلك دعوى أن عدداً من المفسرين السابقين الذين تعرضوا لتأويل بعض الآيات الكونية في كتاب قد تكلفوا في تحميل تلك الآيات من المعاني ما لا تحتمله، وذلك بسبب نقص في وفرة المعلومات العلمية أو جهل بها , وذلك لما سبق وأن أوضحناه بأن التفسير لآي القرآن الكريم هو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة تلك الآيات إن أصاب فيها المرء فله أجران , وإن أخطأ فله أجر واحد , والمعوّل في ذلك النية , وإن الخطأ في التفسير لا ينال من جلال القرآن الكريم , ولكنه ينعكس على المفسر , خاصة وأن الذين فسروا باللغة أصابوا وأخطأوا، والذين فسروا بالتاريخ أصابوا وأخطأوا ، ولم ينل ذلك من قدسية القرآن الكريم ومكانته في قلوب وعقول المؤمنين شيئاً، أما اليوم وقد توافر للإنسان من المعرفة بحقائق الكون وسننه ما لم يتوافر لجيل من البشر من قبل , فإن توظيف ذلك الكم من المعلومات من أجل حسن فهم دلالة الآية القرآنية , وإثبات سبقها التاريخي لكافة البشر، يعتبر ضرورة إسلامية لتثبيت إيمان المؤمنين , ولدعوة الضالين من الكفار والمشركين، والذي سوف يسألنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عن تبليغهم بهذا الدين , ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة .
والأخطاء التي وقع فيها عدد من المفسرين الذين تعرضوا للآيات الكونية في كتاب الله , أو تكلفهم في تحميل الآيات من المعاني ما لا تحمله , في تعسف واضح , وتكلف جلي , يحملونه هم , ولا تتحمله آيات الكتاب المبين ؛ لأن التأويل يبقى جهداً بشرياً منسوباً لمؤوِّله , بكل ما للبشر من نقص وبعد عن الكمال , وإذا كان عدد منهم قد جاوز الصواب في تأويله, فإن أعداداً أوفر قد وفِّقت في ذلك أيما توفيق . ولم تكن أخطاء المفسرين محصورة في محاولات تأويل الإشارات الكونية فقط, فهنالك عدد من كتب التفسير التي تمتليء بالاسرائيليات الموضوعة , والعصبيات المذهبية الضيقة , وغير ذلك مما لا يقبله العقل القويم , والصحيح المنقول عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن أصحابه المكرمين والتابعين , ولا يرتضيه المنطق اللغوي السليم ، فالمعتزلة ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ قد حاولوا في تفاسيرهم إخضاع الآيات لمبادئهم في العدل والتوحيد ، وحرية الارادة ، والوعد والوعيد، وإنكار الرؤية وغيرها , وتعسفوا في ذلك أيما تعسف .والشيعة ـ على اختلاف فرقهم ـ قد دفعتهم المغالاة في حب آل البيت إلى التطرف في تأويل الآيات القرآنية تأويلاً لا يحتمله ظاهر الآيات ، ولا السياق القرآني، ولا القرائن المنطقية المختلفة . وكذلك المتصوفة والإشاريون ـ فهم على الرغم من تسليمهم بالمأثور من التفسير, وقبولهم للمعنى الذي يدل عليه اللفظ العربي ـ يسمحون لأنفسهم باستنباط معان للآيات تخطر في أذهانهم عند التلاوة، وان لم تدل عليها الآيات القرآنية الكريمة بطريق من طرق الدلالات المعروفة في الاستعمال العربي للغة وطرائق التعبير فيها . أما المنحرفون من أتباع الفرق الباطنية وإفرازاتها القديمة والحديثة ـ كالقرامطة والبابية, والبهائية, والعلوية النصيرية, والقاديانية الأحمدية, والاسماعيلية, والدرزية وغيرها ـ فتمتليء تفاسيرهم بالانحرافات التي تنطق بالتعسف والافتعال, ومحاولات تطويع القرآن لمبادئهم المضللة في تكلف ملحوظ .
فهل معنى ذلك أن يتوقف علم التفسير عند حدود جهود السابقين من المفسرين ؟ ، ويتوقف فهم الناس لكتاب الله الذي أنزل إليهم ليتدبروا آياته, ويعيشوا في معانيه , ويتخذوا منها دستوراً كاملاً لحياتهم عند جهود قدامي المفسرين على فضلهم, وفضل ما قدموه لخدمة فهم القرآن الكريم في حدود المعرفة المتاحة في أزمنتهم ؟ . بالقطع لا , على الرغم من التسليم بأن هذه الانحرافات وأمثالها كانت من وراء الدعوة إلى الوقوف بالتفسير عند حدود المأثور, فكتب التفسير على تباينها تحوي تراثاً فكرياً وتاريخياً لهذه الأمة لايمكن التضحية به, حتى ولو كانت به بعض الأخطاء أو التجاوزات, إلا إذا كان القصد الواضح هو التحريف , وهو أمر لايصعب على عاقل إدراكه .
من كل ما سبق يتضح لنا أن حجج المضيقين في رفض تفسير الإشارات الكونية في كتاب الله على ضوء ما تجمع اليوم لدى الانسان من معارف بالكون وعلومه هي كلها حجج مردودة , فالكون صنعة الله , والقرآن هو كلام خالق الكون وواضع نواميسه, ولا يمكن أن يتعارض كلام الله الخالق مع الحقائق التي قد أودعها في خلقه , إذا اتبع الناظر في كليهما المنهج السليم , والمسلك الموضوعي الأمين, فمن صفات الآيات الكونية في كتاب الله أنها صيغت صياغة معجزة، يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني في كل أية من تلك الآيات الدالة على شيء من أشياء الكون، أو ظواهره، أو نشأته، أو إفنائه وإعادة خلقه , وتظل تلك المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لايعرف التضاد , وهذا عندي من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله . ومن هنا كانت ضرورة استمرارية النظر في تفسير تلك الآيات الكونية, وضرورة مراجعة تراجمها إلى اللغات الأخري بطريقة دورية . أما آيات العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات فقد صيغت صياغة محكمة يفهم دلالتها كل مستمع إليها مهما قلت ثقافته أو زادت؛ لأن تلك الآيات تمثل ركائز الدين الذي هو صلب رسالة القرآن الكريم . وكذلك الآيات المتعلقة بصفات الله , وبالآخرة وبالملائكة والجن وغير ذلك من الأمور الغيبية غيبة مطلقة، فلا يملك المسلم إلا الإيمان بها , والتسليم في فهمها لنص القرآن الكريم أو للمأثور من تفسير المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الإنسان لايمكن له أن يصل إلى عالم الغيب المطلق إلا ببيان من الله الخالق ؛ وذلك لأن قدرات عقل الإنسان المحدودة , وحواسه المحدودة لايمكن لهما اجتياز حدود عوالم الغيوب المطلقة مهما أوتي الإنسان من أسباب الذكاء والفطنة . ومن هنا كان امتداح القرآن الكريم للذين يؤمنون بالغيب .
موقف الموسعين من التفسير العلمي :
ويرى أصحاب هذا الموقف أن الإشارات الكونية في القرآن الكريم قد قُصدت لذاتها ـ أي لدلالاتها العلمية المحددة ـ مع التسليم بوجوب استخلاص الحكمة والعبرة منها , والوصول إلى الهداية عن طريقها . وانطلاقاً من ذلك فقد قام أصحاب هذا الموقف بتبويب آيات الكونيات في كتاب الله , وتصنيفها حسب مختلف التصانيف المعروفة في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية , ثم اندفعوا في حماسهم لهذا الاتجاه إلى المناداة بأن القرآن الكريم يشتمل على جميع العلوم والمعارف .
ولابد لحسن فهم تلك الإشارات الكونية في كتاب الله من تفسيرها على ضوء اصطلاحات تلك العلوم والمعارف , ثم زاد البعض بمحاولة إثبات أن جميع حقائق العلوم البحتة والتطبيقية التي استخلصها الانسان بالنظر في جنبات هذا الكون هي موجودة في القرآن الكريم استناداً إلى قوله تعالى : "مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ " (الأنعام: آية38) . وقوله : " ....وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ " (النحل: آية89) .
وهذا في رأينا موقف مبالغ فيه؛ لأن السياق القرآني في الايتين السابقتين لايتمشى مع ما وصلوا إليه من استنتاج ؛ لأنهما يركزان على رسالة القرآن الأساسية، وهي الدين بركائزه الأربع الأساسية : العقيدة , والعبادة , والأخلاق والمعاملات, وهي القضايا التي لا يمكن للإنسان أن يضع فيها لنفسه ضوابط صحيحة ، وهي التي استوفاها القرآن استيفاءاً لايقبل إضافة, أما قصص الأمم السابقة والإشارات إلى الكون ومكوناته فقد جاء القرآن الكريم بنماذج منها تشهد لله الخالق بطلاقة القدرة على الخلق وإفنائه وإعادته من جديد .
وربما كان هذا الموقف وأمثاله من الإسباب الرئيسية التي أدت إلى تحفظ المتحفظين من الخوض في تفسير الآيات الكونية الواردة في كتاب الله على أساس من معطيات العلوم البحتة والتطبيقية , أو التعرض لإظهار جوانب الإعجاز العلمي فيها .
شعار مجموعة نرقى ليرقى منتدانا