بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراُ، وتبارك الذي جعل في السماء بروجأَ وجعل فيها سراجا منيراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياَ ومبشراَ ونذيراَ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.أما بعد:
قال تعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) [ الأحزاب الآية 72]
يوم تعيش الأمة بلا إيمان فهي قطيع من الغنم.. ويوم تعيش مجتمعات بلا إيمان فهي سياج من الضلالة.. ويوم يبنى البيت بلا إيمان فمعناه الضوضاء والقلق.
الإيمان رسالة اختص الله بها من أراد نجاته وفوزه من بني الإنسان.. وإن الأمة الإسلامية هي وقود هذه الرسالة، وأفرادها هم جنودها البواسل، بل عيونها الساهرة.. وأياديها النافعة العاملة.
فالأمانة شاقة.. والأمانة ضخمة.. والأمانة مكلفة. لم تستطع السموات والأرض حملها.. وكذا الجبال، فأتى الإنسان الضعيف الهزيل بحقارته وضعفه فحملها.
فما هي الأمانة؟
الأمانة بتعريف مبسط: أن تراقب الله عز وجل في كل شأن استأمنك عليه.. بما ذلك نفسك التي بين جنبيك.
يقول أحدهم يوصي أخاه:
وَإِذا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ في ظُلمَةٍ *** وَالنَفسُ داعيَةٌ إِلى الطُغيانِ
فاِستَحي مِن نَظَرِ الإِلَهِ وَقُل لَها *** إِنَّ الَّذي خَلَقَ الظَلامَ يَراني
فهل قلنا لأنفسنا ونحن بين الجدران والحيطان في مكاتبنا وفي أعمالنا وفي مهماتنا "إن الله يرانا"؟!
هل استشعرنا رؤية الله، ونظر الله، وحفظ الله، ورعاية الله؟
والله لو استشعر كل واحد منا هذا المبدأ الأصيل لصلح أمرنا، وكانت بلادنا في رغد أرغد مما هي فيه الآن، وفي سعادة أسعد مما هي فيه الآن، وفي رقي وازدهار أحسن وأجدى وأنفع مما تعيشه الآن... نعم هذا المبدأ لابد أن نؤصله كثيرًا في حياتنا.
خرج عمر بن الخطاب ليخطب يوم الجمعة ويصلي بالناس وبطنه يقرقر عام الرمادة بالجوع.. فقال لبطنه: (قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين)!
ويمشي رضى الله عنه في بُرد مرقّع فيه أربع عشرة رقعة، ويضرب جسمه بالعصا ويبكي ويقول: يا عمر، والله لتتقينّ الله أو ليعذبنك الله عذابا ما عذبه أحداً من الناس.
يخرج ابن عمر إلى بعض نواحي المدينة فيلقى راعيا في الطريق فيقول له ابن عمر: أيها الراعي، أتبيعني شاةَ من غنمك؟
قال الراعي: هي لسيدي وأنا أرعى له بالأجرة.
قال: بِعها لي، فإذا سألك فقل أكلها الذئب!- يريد ابن عمر أن يمتحن أمانته-.
فقال الراعي: فأين الله؟
فجلس يبكي رضى الله عنه.
فهل قلنا مثل ما قال هذا الراعي الذي استشعر رقابة الله.. وأدى الأمانة بصدق،لأنه يعلم أن من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور رقيب على أحواله كلها.
نحن نتعامل في بلد بنيت حضارته على الإسلام، وبنيت لبنته على لا إله إلا الله..
ترابه لو نطق لقال: لا إله إلا الله... ماؤه لو تكلم لقال: لا إله إلا الله.. وهواؤه لو خطب لقال: لا إله إلا الله.
نحن نختلف تماماَ عن الأمم الكافرة، ففردها كافر يخاف السلطة لا غيرها.
والله يقول في القرآن: (وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُـ) [ الأنعام الآية 120].. أما ظاهر الإثم فالأمم تعرف ذلك كافرها ومسلمها. أما باطن الإثم فلا يعرفه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.. وهي الرقابة، فالفرد هنا يختلف تماماَ عن ذلك ، لان هذا كتلة من إيمان وشعلة من توحيد، قد سلم قيادة لله قبل أن يسلمه للبشر، وأعطى قلبه لله قبل أن يعطيه المسؤول.
نعم! يُحترم المسؤول، ويقدر المسؤول، ويُطاع المسؤول،لان الله عز وجل أمر بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله. لكنه لا يستطيع أن يراقب جميع أفعالنا وهمومنا وعزائمنا.. إنما ذلك لله وحده.
سمع عمر بن رضى الله عنه بائعة لبن تقول لابنتها: أتريدين أن يكثر لبننا لنبيعه ونكسب؟
قالت: نعم.
قالت: امزجيه بالماء.
قالت الجارية: إنا نخاف من عمر أمير المؤمنين أن يعرف أنا نغش اللبن بالماء.
قالت أمها: عمر لا يدري.
فقالت الجارية: وأين رب عمر؟
ففرح عمر بهذه الجارية.. وزوجها لأحد أبنائه.
إذن..فالأمانة الكبرى أمانة الإيمان.. أمانة حمل لا إله إلا الله.. والله لو أخلصنا لهذه الكلمة حق الإخلاص ما عُبثَ بكرامتنا وبمجدنا وبمقدساتنا.
إننا نعيش الآن في آخر ركب الحضارة، لقد ضيعنا مجدنا وعزنا وكرامتنا يوم فرطنا في الأمانة التي حملنا الله إياها، ويوم أن أهملنا مراقبة الواحد الأحد.
كأن رقيباً منك يرعى خواطري **** وآخر يرعى مسمعي وجناني
يقول اللواء محمود شيت خطاب: (( كنت في العسكرية، فكنت أعمل لغير وجه الله، فجلست ليلة من الليالي مع شلة في ثكنة عسكرية في بغداد، فمر بنا أحد دعاة الإسلام فوجدنا في مجلس .
فقال لي: يا محمود، اتق الله إن الله رقيب عليكم !
قلت: ومَن الرقيب ولا يرانا إلا الكواكب؟
قال الداعية: يا محمود، فمنْ كوكَب الكواكب؟
قال: فوالله مازالت كلمته ترنُّ في ذهني إلى الآن)).
وبعدها تاب وأصبح داعية من أكبر الدعاة في العالم الإسلامي، ونفع المسلمين في جانب العسكرية الإسلامية، فهو يحلل الغزوات والمعارك الإسلامية تحليلًا حديثًا على مستوى الزمن المعاصر.
فسبحان الله ! إذا راقب العبد الله كيف يخلف الله عليه إيمانًا.
والأمانة تدخل في الصلاة، فأنت لا تراقِب إلا الله في كل وقت.
بإمكان الإنسان أن يترك الصلاة، أو أن يعبث في الصلاة، أو أن يصلي بلا وضوء، ولكن من يراقب الخطوات والسكنات إلا الواحد الأحد سبحانه.
في الحديث: " يعجب ربُّك لمسلم يؤذن في البادية ويصلي".صححه الألباني في "المشكاة"(665). لماذا يعجب منه الله؟ لأنه صلّى وحده وفي مكان لا يراه أحد إلا الله.
والأمانة تدخل كما يقول أهل العلم في الوضوء، فبإمكان كثير من الناس أن يصلي بلا وضوء.. من يدري أنه دخل المسجد متوضئاً أو غير متوضئ، طاهراً أو غير طاهر، إلا الله تعالى؟
والأمانة تدخل في باب العمل،وهو ما يهم كثيرًا منا، فإن الله كما في الحديث الحسن: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". فلا يستصغر الإنسان نفسه، فالأستاذ في الفصل سوف يحاسبه الله عن رسالته التي قدمها للأجيال؟ وماذا فعل بأبناء المسلمين؟!
والمدير في المكتب يحاسبه الله على أمانته في المعاملات، على ما أخذ وعلى ما أعطى.
والقائمون بالمهن المعيشية، من غسّالٍ وخبّازٍ ونجارٍ وفرانٍ، وغير ذلك، كلهم سيوقفهم الحي القيوم يوم القيامة، فيحاسبهم فردًا فردًا ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً)93( لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً)94( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً).. [ مريم 93-95 ]
فأمانتنا يا أيها الأخيار معناها أن نراقب الواحد الأحد، ومعناها أن نتذكر دائمًا ونحن نتحمل مهمتنا ومسؤوليتنا أن الله معنا برقابته، ويوم أن نحفظ الله عز وجل يحفظنا الله.
أُسس تقوم عليها الأمانة:
والأمانة تقوم على ثلاث أسس:
الأول: الأصالة.. أي أن نكون مؤمنين نتشرف بالإيمان بالله، فلا شرف لنا إلا به.
الثاني: الرقابة.. أي نتذكر الله في كل لحظة قبل أن نتذكر المسؤول من البشر.
الثالث: أن نرعى الأمانة ليحل لنا راتبنا،لأن من أطعم جسده من الحرام كانت النار أولى به، ومن غذى أطفاله حراماً فسدوا عليه.
فنعوذ بالله من الفشل والانهزامية والخيانة لله وللمؤمنين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.