آفـة السخرية
د. عمر عبدالكافي
بتصرف من حلقات آفات اللسان
آفة خطيرة تعصف بكثير منا،
ويستمرئها كثير من المسلمين والمسلمات،
ألا وهي السخرية والاستهزاء بالغير.
اتفق العلماء على تحريم السخرية والاستهزاء لقول الله عز وجل:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11).
السخرية، معناها:
أن تستهين وتحتقر الغير؛ فإذا استهنت بالغير واحتقرته، ونبهت على عيوبه وذكرت نقائصه؛ فهذا هو المعنى الأساس للسخرية والاستهزاء. قد يستهزئ بالآخر أو بالآخرين، إن كانوا رجالاً أو نساءً، ممكن عن طريق المحاكاة،
يعني: التقليد في الفعل وفي القول،
يعني: إنسان يقلد إنساناً يحاكيه في أفعاله وأقواله، أو بإشارة معينة، أو بإيماءة معينة، أو بتلميح معين، فيفهم من يرى هذا أن فلاناً يستهزئ بفلان.
إن عائشة، رضي الله عنها، قالت: حاكيت إنساناً، يعني: قلدت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:
"والله ما أحب أني حاكيت إنسانا ولي كذا وكذا" (1).
و في تفسير قول الله سبحانه وتعالى:
(يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (الكهف: من الآية 49)،
ذكر بعض أهل العلم أن
الصغيرة هي: التبسم بالاستهزاء بالمؤمن،
والكبيرة: القهقهة بذلك.
يعني: أن تبتسم ابتسامة مستهزئا بمؤمن؛ هذا من الصغيرة التي لا يغادرها الكتاب الذي سوف يتعلق في رقبة كل واحد منا،
والكبيرة: أن تقهقه بذلك.وكان هؤلاء المجرمون الذين قال رب العباد سبحانه وتعالى عنهم:
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة:14-15).
حتى إن بعض المنافقين وبعض البعيدين عن رحمة الله، والعياذ بالله رب العالمين، وصفهم الله عز وجل وقال:
( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (المائدة:58).
وكان رب العباد سبحانه وتعالى يطيب قلب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول سبحانه وتعالى:
( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأنعام:10).وقال له: ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ) (الحجر:95)، وقال عز وجل في سورة الأحقاف: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأحقاف: من الآية 26).قضية الاستهزاء موجودة على مر الزمن، فقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (المطففين:29-31)،
هؤلاء الناس الذين يستهزئ الواحد منهم أو الجماعة منهم بمؤمن أو مؤمنة؛ فحسابهم عند الله عسير، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوب على المبتلى بهذه الآفة الخطيرة. ولذلك ورد عن الحسن البصري، رحمه الله،
أنه قال: "إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة،
فيقال: هلمّ هلمّ، (أي: تعال تعال)
فيجيء بكربه وغمه ( لأنه في جهنم والعياذ بالله)،
فإذا أتاه أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر
فيقال: هلمّ هلمّ فيجيء بكربه وغمه، فإذا أتاه أغلق دونه
فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له الباب
فيقال له: هلمّ هلمّ، فلا يأتيه" (2).
لذلك روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "من عيّر أخاه بذنب قد تاب منه؛ لم يمت حتى يعمله" (3)
لأن الله سبحانه وتعالى ينبهنا إلى ذلك بقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11)
يعني لا أسخر من أي إنسان، من يدري؟!!
من الواجب على كل مسلم أن يقول عند التعامل مع أي إنسان،
أنا أتعامل مع أصناف ثلاثة:
1. من يكبرني سناً2. ومن يساويني سناً3. ومن هو أقل من سني وعمري فالإنسان الذي يكبرني سناً
بمجرد أن أبدأ في التعامل معه، يجب أن يخطر ببالي ويقر في خلدي، أن هذا الإنسان الذي يكبرني سنا أفضل مني عند الله عز وجل، لأنه سبقني إلى الطاعات وسبقني إلى الإسلام.
والذي يصغرني سناً
أقول هو أفضل مني عند الله عز وجل؛ لأنني سبقته بالذنوب.
والذي يساويني سناً
أقول في نفسي لابد أنه أفضل مني لأنني أعرف من ذنوبي مالا يعرفه غيري.
إذاً الإنسان الذي يستسهل أو يتساهل في مسألة الاستهزاء بالناس يرتكب شيئاً حرمه رب العباد سبحانه وتعالى والإنسان يجب أن يحترم وأن يجلّ الناس، وأن ينزلهم منازلهم، وألا يستصغر بإنسان.
وفي حديث آخر الرجال ممن يخرجون من الجنة يقول الله له:
"أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها قال يا رب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين"، فضحك ابن مسعود،
فقال: "ألا تسألوني مم أضحك"؟
فقالوا: مم تضحك؟
قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟
قال: من ضحك رب العالمين حين قال أتستهزئ مني وأنت رب العالمين
فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر" (4).
وعن سعيد بن جبير، رحمه الله،
قال: جاء رجل إلى ابن عباس، رضي الله عنهما،
فقال: إني طلقت امرأتي ألفا ومائة، قال: بانت منك بثلاث وسائرهن وزر اتخذت آيات الله هزواً"(5)
إذاً الإنسان لا يتخذ أبدا آيات الله هزوا،
وهؤلاء المستهزئين يجب أن يعيدوا حساباتهم.
لماذا تستهزئ بالناس؟!
أنت إن استهزأت بإنسان دون أن تدري؛ وصفت نفسك أو وضعت نفسك داخل دائرة الكبر؛ لأن المتكبر يرى نفسه غير الناس، يرى نفسه أفضل من غيره، يرى نفسه أفضل من آخرين، يرى نفسه أكثر أعمالاً صالحة من غيره، يرى نفسه أقل ذنوباً من غيره.
فلماذا تستهزئ؟!
أنت لو جلست مع نفسك، وعددت عيوبها، وحاولت أن تصلح من شأنها، أنا أظن أن الوقت سوف ينقضي وأنت ما تزال تعد عيوبك. كل بني آدم خطاء، فالمستهزئ بالناس، والذي يسخر من الناس، هذا إنسان يتعامل مع الناس من علٍّ، متكبراً، مصعراً خده للناس.
هذا لقمان، عليه السلام، يعظ ولده موعظة غالية:
(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18). والله عز وجل يوصي المؤمنين،
فيقول سبحانه: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الإسراء:37).
إذاً المسألة لماذا تتكبر؟!
لماذا هذا الكبر الذي يجعلك تستهزئ بالآخرين؟! تسخر من إنسان لأنه كثير الذنوب،
يا أخ الإسلام، احمد الله على العافية أولاً،
و ادعو الله له بالتوبة،
و ادعو الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بيده إلى طريق الصواب.
تسخر من إنسان؛ لأنه ضعيف البنية أو فقد عضواً من أعضائه في حادثة أو غير ذلك؛ فتسخر وتهزأ وتجعله أضحوكة أمام الناس، ولا تتق رب العباد سبحانه وتعالى.
هذه إهدار لآدمية من أمامك، إهدار لإنسانيته، إهدار لكرامته، إهدار لقيمته أمام الناس، وأنت ما عليك إلا أن تراعي أن التواضع شيم المؤمنين، إذ ما يتواضع إلا عظيم.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام يجعله فوق الجميع، ولكنه بتواضعه عاش واحداً بين الجميع. ما رأينا صحابته أبداً سخر واحد منهم من أخيه .
هذا أبو ذر ، رضي الله عنه، وكانت فيه حدة، لما عير بلال بن رباح، رضي الله عنه، قائلاً: يا ابن السوداء، فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر، أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية" (6).
لقد ألغى الإسلام الطبقية وألغى العصبية، ، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "دعوها فإنها منتنة" (7). فكلنا لآدم وآدم من تراب.
فيجب علينا أن نراعي قضية التواضع،
و قضية عدم التكبر على خلق الله،
عدم الاستهزاء بالناس، صغاراً كانوا أم كباراً، رجالاً كانوا أم نساءً.
فالذي يسخر من الناس إنسان يضع نفسه في موضع كأنه من طينة غير الطينة التي خلق منها الناس.ولكن هناك ملحظ بسيط، وهو أن بعض الناس هيأ نفسه لأن يسخر الناس منه.
بل ربما يفرح كلما سخر الناس منه، كلما سخر منه أحد يشعر بالفرح، نحن لا نشجع الناس على الاستهزاء والسخرية به، لكن هذا إنسان وضع نفسه هذا الموضع.
لكن يجب أن نحترم الناس ويجب أن لا نجرح شعور الناس، حتى الأطفال الصغار، أطفالنا، لا يجب أن تهزأ الأم وتسخر أمام أحد من الأقارب بابنها أو ابنتها، ولا يسخر الأب أيضا من ابنه أو ابنته، ولا يسخر الزوج من زوجته أمام أقاربها أو أقاربه. وهكذا أيضاً لا تصغر المرأة زوجها في عيون الآخرين.
عندما تستهزئ أو تسخر منه أو تعيب عليه في شيء معين، لا يعرف أن يتكلم، إنسان لا يجيد كذا ولا يعرف كذا، ولا يعرف كذا، هذا مما يجرح شعور الزوج ويورث الضغائن والأحقاد في داخل النفوس الإنسانية. فالنفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وكراهية من أساء.
يجب أن يتقي كل واحد منا ربه ويمسك لسانه، ولا داعي لمثل هذه الآفات التي تعصف بالمجتمع.
فالإنسان مكلف أن يحسن إلى خلق الله وأن يحسن إلى عباد الله، وألا يستشعر أبداً أنه من طينة غير الطينة، أو من تكوين غير التكوين، كلكم لآدم وآدم من تراب.والمؤمن مع أخيه كأسنان المشط، يعني: لا يتفاضل واحد على الآخر إلا بتقوى الله عز وجل، وهذا أمر لا يعلمه إلا الله رب العباد سبحانه وتعالى.
أما أن ينزل نفسه منزلة فوق خلق الله، فيسخر من هذا ويهزأ من هذا، أبداً. كان عمر –رضي الله عنه- يقول عن أبي بكر: "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا" (8).
ويقصد بهذا بلال رضي الله عنه.يجب على المسلم أن يراعي أنه يجلّ الناس ويحترمهم، فإذا أجللت الناس واحترمتهم، احترموني، وإذا أجلتهم أجلوني، وإذا وضعتهم في المكان اللائق كان هذا مدعاة إلى إثارة المحبة والود في المجتمع، لا أن نثير روح البغضاء و الشحناء.نسأل الله –سبحانه وتعالى- أن يتوب علينا جميعا من هذه الآفة الماحقة، هذه الآفة الخطيرة، آفة الاستهزاء والسخرية من خلق الله.
--------------------------------------------------------------------------------
1)- صحيح أخرجه أحمد في"المسند" (6/128)، وأبو داود في "السنن" (4/269)
رقم (4875)، والترمذي في"السنن" (4/660) رقم (2502)، وصححه، وانظر:"الترغيب والترهيب" (3/327).
2)- انظر:"شعب الإيمان" (5/310)، و"الترغيب والترهيب" (3/374).
3)- حسن أخرجه الترمذي في"سننه" (2505) وحسنه، والطبراني في "المعجم الأوسط"(7244)،
والبيهقي في"شعب الإيمان" (6697)، من حديث خالد بن معدان عن معاذ، ولم يسمع منه، وله شواهد عديدة من كلام ابن مسعود والحسن البصري،
وقد قيد العلماء هذا التعيير إذا كان تاب من هذا الذنب، إما إن لم يتب فالنصيحة واجبة.
4)- أخرجه مسلم في"صحيحه" (187).
5)- أخرجه ابن أبي شيبة في"المصنف" (4/62).
6)- أخرجه البخاري في"صحيحه"(1/20) رقم (30)، ومسلم في "صحيحه"(3 / 1383) رقم (1661).
7)- أخرجه مسلم في "صحيحه" (4/1998) رقم (2584) من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما.
8)- انظر هذا في "سير أعلام النبلاء" (1/349).
م/ن