للمفردة في القرآن جمالية خاصة ومن صور جماليتها:
سهولة النطق
كقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ)، وكقوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ)، وكقوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) فحركة الضمّ في هذه الألفاظ متوالية، وليس بها من ثقل ولا كراهة. وقد استوقف هذا الرافعيَّ، وصدر عنه رأي غاية في الوجاهة يقول: ومن ذلك لفظة (النُّذُرِ) جمع نذير، فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معاً، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام، فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ)، فتأمل مواضع القلقلة في دال (لَقَدْ)، وفي الطاء من (بَطْشَتَنَا)، وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (فَتَمَارَوْ) مع الفصل بالمد، كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان؛ ليكون ثقل الضمة عليه مستخفاً بعد، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة. ثم ردد نظرك في الراء من (تَمَارَوْا) فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء (النُّذُرِ) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجفو عليه ولا تغلُظ ولا تنبو فيه، ثم أعجب لهذه الغنَّة التي سبقت الطاء في نون (أَنذَرَهُم) وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في (النُّذُرِ).
ملاءمة المقام
فمن ذلك قوله تعالى: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ..) وقوله تعالى: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) فاستعمل الجوف في الأولى والبطن في الثانية، ولم يستعمل الجوف موضع البطن، ولا البطن موضع الجوف واللفظتان سواء في الدلالة، وهما ثلاثيتان في عدد واحد، ووزنهما واحد أيضاً، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف يفعل؟. ويخيّل إلي أن الأمر يعود ها هنا إلى الدلالة الإيحائية لكل من اللفظتين، ذلك أن مادة كل منهما تختلف بعض الاختلاف عن مادة اللفظة الأخرى. فمادة (الجوف) توحي بالضمور والخلوّ والانـحسار والعمق، ولاسيما بما يرسمه الجيم
وبعده الواو الساكن ثم الفاء من دلالة إيحائية، على عكس مادة (البطن) التي توحي بالنتوء والبروز والانكشاف، وهي أنسب للحمل من مادة الجوف؛ فالجنين المكنَّى عنه بقوله تعالى على لسان مريم -عليها السلام-: (مَا فِي بَطْنِي) يناسبه كثيراً النتوء والبروز والانكشاف، مثلما هي حال (الحامل)، ويناسبه، تبعاً لذلك، لفظ (بطن) دون (جوف).
جمالية خاصة لبعض الصيغ
أن الذكر الحكيم يصطفي صيغاً صرفية خاصة للمفردات، يلح عليها دون غيرها في استعمالها. مثل الفعل (وَدَع) لا يحسن إلا حين يستخدم مستقبلاً وأمراً، ولم يجئ في القرآن الكريم إلا كذلك، بينما جاء في الشعر العربي ماضياً فشأنه إتيانه في هذه الصيغة. يقول ضياء الدين: "ومن هذا النوع لفظة وَدَع"، وهي فعل ماض ثلاثي لا ثقل بها على اللسان، ومع ذلك فلا تستعمل على صيغتها الماضية إلا جاءت غير مستحسنة، ولكنها تستعمل مستقبلة، وعلى صيغة الأمر، فتجيء حسنة. أما الأمر فكقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)، ولم تأتِ في القرآن الكريم إلا على هذه الصيغة .. وأما الماضي من هذه اللفظة فلم يستعمل إلا شاذاً، ولا حسن له، كقول أبي العتاهية:
أثّرَوا فلم يُدخلوا قبورهم
شيئاً من الثروة التي جمعوا
وكان ما قدَّموا لأنفسهم
أعظم نفعاً من الذي ودَعوا
وهذا غير حسن في الاستعمال، ولا عليه من الطلاوة شيء، وهذه لفظة واحدة لم يتغير من جمالها شيء، سوى أنها نُقلت من الماضي إلى المستقبل لا غير.
ملاءمة السياق
كقوله تعالى: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) وقد وقف الرافعي عند هذه الكلمة وتبين من جمالها مظاهر كثيرة، ومخايل لا يملك من يطلع عليها إلا أن يخفض جناح الإقرار والتأييد، قال الرافعي: فإن حسن (ضِيزَى) في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه، ولو أردت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها؛ فإن السورة التي هي منها، وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء، فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل، ثم هي في معرض الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بناتٍ لله مع أولادهم البنات، فقال تعالى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى* تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)، فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها، الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدين فيها إلى الأسفل والأعلى.
وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية ... وأن تعجب فعاجب لنظم هذه الكلمة الغريبة وائتلافه مع ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مد ثقيل، والآخر مد خفيف، وقد جاءت عقب غُنَّتين في (إِذًا) و (قِسْمَةٌ). وأحداهما خفيفة حادة، والأخرى ثقيلة متفشية، فكأنها بذلك ليست إلا مجاورة صوتية لتقطيع موسيقي. وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددناها آنفاً. أما خامس هذه المعاني، فهو أن الكلمة التي جمعت المعاني الأربعة على غرابتها، إنما هي أربعة أحرف.
شعار مجموعة نرقى ليرقى منتدانا