السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما لا تعرفه عن "أبو عبيدة" !
مما لاشك فيه أن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة تدير معركتها بلا عشوائية، بل بكل وعي وإقتدار على كافة الأصعدة، بما في ذلك الصعيد الإعلامي المتمثل بالفضائيات والمواقع الالكترونية ومواقع التواصل الإجتماعي والناطقين الإعلاميين، وبالنسبة للأخيرة فإن شخصية "أبو عيبدة" على وجه التحديد تحتاج لوحدها وقفة مستضيفة وتأملات بعمق غير سطحية.
في المعارك السابقة بغزّة عامي 2008 و2012 كان الجمهور يُلاحظ خروج الناطقين الإعلاميين بإسم الأجنحة العسكرية الفلسطينية ليدلوا بتصريحاتهم حول المستجدات ومواقف الجهات التي يمثلونها، لكن ما يلاحظ في 2014 غياب الناطق بإسم سرايا القدس "أبو أحمد" وعددٍ آخر من الناطقين بإسم فصائل المقاومة، لكن هذا الغياب تجسد حضوره في "أبو عبيدة" فهو لم يغدو ناطقا بإسم كتائب القسام وحدها بل بإسم كافة فصائل المقاومة، وإن كان أحد يخالفني الرأي فليعد بذاكرته قليلا لعلها تسعفه بإيجاد تصريحٍ للناطق بإسم سرايا القدس خلال الأسابيع الماضية!، إضافة لأن أبو عبيدة في خطاباته لا أنكر أنه يتحدث بإسم القسام، لكن في ذات الوقت لا يكاد يخلو أي خطاب له من إدراج لفظ "المقاومة الفلسطينية"، هذه العبارة لوحدها تعني جميع مقاتلي غزة، إذن فصائل المقاومة الفلسطينية أدركت هذه الجزئية فلم تتوحد في الميدان فحسب ولم تقسّم أدوارها وجدولها الزمني فقط، بل أيضا على المستوى الإعلامي إستطاعت أن تبهر الجميع وتُكسب المعركة الحالية سمة مميزة ومختلفة عن السنوات الماضية.
بالدخول إلى شخصية "أبو عبيدة" لا أبالغ إن وصفته بشخصية العام 2014 حتى الآن، فإكتساحه الجمهور الفلسطيني لم يأتِ من فراغ، فما من أحد يجبر أي إنسان على أن يتابع خطابا لا يروق له!، هنا تستحضرني بضعة نقاط، أولها أن شخصية أبو عبيدة الغامضة بعكس "معظم الناطقين الإعلاميين للأجنحة العسكرية" أكسبته متابعة كبيرة في أوساط الجماهير، فمن ناحية نفسية الإنسان مصاب بداء الفضول والبحث عن الإكتشاف والمجهول، ومن ناحية أخرى فأبو عبيدة بوجهه الملثم وببنيته الجسدية القوية وبخيوط كوفيته صنع شخصية الفلسطيني المناضل والمقاوم التقليدي الذي وجد فيه الجمهور ضالته وتابعه بشغف خلال مجريات المعركة الحالية.
إذا سألت أي إنسان فلسطيني في الشارع السؤال التالي: عندما تجد وسائل الاعلام تشير إلى وجود خطابٍ لجناح حماس العسكري فماذا يخطر ببالك؟! أنا على ثقة بأن الجميع سيكون جوابه: للوهلة الأولى تقفز إلى ذهني صورة "أبو عبيدة" بكوفيته وشخصيته المجهولة.
أما على صعيد لغة الجسد فهذه وحدها تحتاج لتأملات دقيقة فقبل بداية المعركة البرية وقف أبو عبيدة في خطابه، وبدأ بالإشارة بإصبع السبابة نحو الكاميرا مهدداً وزير الحرب الاسرائيلي يعالون وموجها كلامه له مباشرة: "أتتوعدنا بما ننتظر يا ابن اليهودية؟!"، وهنا بإمكان أي شخص أن يعيد مشاهدة الخطاب ليتضح له أن إصبع السبابة والتلويح به كإشارة تهديدية لم يكن إلا عند توجيه الكلمات والرسائل الى حكومة الاحتلال وجيشها، والإنسان السطحي غير دقيق الملاحظة في نهاية الأمر سيدرك عامل لغة الجسد مع التكرار التراكمي للخطابات اللاحقة لأبو عبيدة، وبالعودة للغة الجسد فإنها لم تقتصر على إصبع السبابة، فقد خرج أبو عبيدة أمام الكاميرا مشمّرا عن ساعدٍ واحد من يده ومتوعداً بكل حزمٍ جنود الاحتلال بسوء العاقبة في العملية البرية، وفعلاً المعركة البرية جعلت ألوية النخبة وجيش الإحتلال وآلياته يدفعون ثمنا باهظا بات معروفا للجميع، علاوة على ذلك فقد ترجم القسام ما قاله الناطق بإسم القسام، فكانت المعركة البرية فرصة الأمل المنشود لتحرير الأسرى من السجون، حيث قال أبو عبيدة بالحرف "إن هذا الجندي –أي شاؤول- أسير لدى كتائب القسام"!.
أما في الخطاب الأخير عقب بدء مفاوضات القاهرة فقد وقف أبو عبيدة من جديد ولكن هذه المرة مرتديا قميصه العسكري مفتوحا وبلا أزرار، ومشمّرا ليس عن ساعد بل عن ساعدين إثنين، ويؤكد بكل ثقة على ان المعركة لن تنتهي إلا بشروط المقاومة، وداعيا الوفد الفلسطيني الموحد الى عدم التنازل عن المطالب وأوضح مطلب فك الحصار بـ "الميناء" كما أشار هو، ولم يأت أصلا التوضيح إلا بعد تداول وسائل الاعلام أنباء رفض الاحتلال لإقامة الميناء.
أبو عبيدة يجعل المتابع للشأن الفلسطيني يدرك جيدا أكثر من ذي قبل أن الناطق الإعلامي لم يعد مجرد شخصٍ عادي ملما بالقراءة والكتابة، ويقف أمام الكاميرا يلقي بيانا مقتضبا من على ورقة مكتوبة ثم يغادر المكان، تلك كانت صورة من الماضي، أما اليوم ففي أبو عبيدة نجد إنسانا ملما بلغة الجسد وتتوفر فيه ملكة الارتجال بشكل متميز، ويوصل رسالة فكرته بشكل واضح بأقل عدد ممكن من الكلمات التي تحمل دلائل وأبعاد أكبر بشكل يضاعف عددها.
من أجل ذلك كله تعلّق الشارع الفلسطيني بشخصية "أبو عبيدة" فحتى عبر مواقع التواصل الاجتماعي أصبح كثيرون يشتاقون له، ويستخدمون عبارات إشتياق له في غيبته، كما أن الساعة التي سبقت خطاب القائد العام لجناح حماس العسكري محمد الضيف شهدت حالة إنتظار في الشارع الفلسطيني فالمواطنون حسبوا أن أبو عبيدة سيلقي الخطاب كعادته، طبعا قبل أن يتم الاعلان في الدقائق الأخيرة عن كلمة لمحمد الضيف.
ليس الفلسطينيون والعرب وحدهم من يتابعون أبو عبيدة، فمن غير الغريب كذلك أن تُعقّب إحدى القنوات الاسرائيلية على الخطاب الأخير بالتعليق: "لقد كان أبو عبيدة قاسيا في خطابه!".
أمر أخير أود الإشارة إليه شخصياً أبدا لا أقدس الشخصيات بقدر ما أقدس الشهداء ورفاق الشهداء، لذلك عندما أتحدث عن أبو عبيدة لا أتحدث عن مجرد شخص بقدر ما أتحدث عن فكرة وأدرس فكرة هي فكرة "الإعلام المقاوم"، فكرة نجحت المقاومة الفلسطينية في أن تجعلها شيئا يلفت الإنتباه ويستحق التأمل، فالمناصب والمسميات قطعاً لا تكسب الأشخاص هيبة بل إن الأشخاص هم من يكسبون تلك المناصب والمسميات هيبة مهما كانت صغيرة أو كبيرة