مفاتح الغيب... وعلم ما في الأرحام
د. عبدالجواد الصاوي.
روى البخاري بسنده عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي أنه قال: مفاتح الغيب خمس ثم قرأ الآية: (إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 34).
أثار المشككون الشغب حول تفسير علم ما في الأرحام بعمومه على أنه أحد الغيوب الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وقالوا لقد بات العلماء يعرفون ما في الأرحام من ذكورة الجنين أو أنوثته، والتشوهات الخلقية فيه، وهو في بطن أمه بأجهزة التصوير والتحاليل الدقيقة! وأصبح في مقدور العلماء إنزال المطر من السحب، بواسطة بعض التقنيات العلمية! فأثاروا البلبلة في أذهان الكثيرين من العوام، وعند غير الراسخين في العلم بهذا الموضوع! وهب بعض العلماء المعاصرين يدفعون الشبهة وينافحون عن تفسير النص القرآني، لكنهم للأسف أخطئوا طريق الدفاع الصحيح! فلم يحرروا محل النزاع بدقة، ولم ينظروا إلى النصوص الواردة في الموضوع مجتمعة، ولم يدرسوا الأمر دراسة موضوعية، فطاشت سهامهم! وبقيت الشبهة حية في عقول وأفواه الكثيرين من الناس. وفي هذا البحث سنناقش هذا الموضوع باختصار في الإجابة على الأسئلة التالية: ما الفرق بين علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وبين علم الله المحيط بعالم الشهادة؟ وكيف حدث الخلط بينهما.؟ وهل يمكن أن يعلم البشر شيئا من مفاتح الغيب؟ وما هو العلم الذي لا يعلمه إلا الله لما في الأرحام؟ وما هو الزمن الذي تتعلق به مفاتح الغيب الخمس؟ وهل يوجد وجه للإعجاز في التحدي بهذه المغيبات الخمس.
قال الله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا في البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام: 59).
تحدثت الآية الكريمة في أولها عن عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله, ثم تحدثت في الجزء الثاني منها عن علم الله الشامل المحيط في عالم الشهادة فما هو عالم الغيب وما هو عالم الشهادة؟
الغيب: هو ما غاب عن حواس الإنسان أو عن علمه وبصيرته، أو ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم بعضه بخبر الأنبياء ـ عليهم السلام.
قال ابن جرير الطبري(1): أخبر الله تعالى أن عنده علم كل شئ كان ويكون وما هو كائن مما لم يكن بعد وذلك هو الغيب. وقال صاحب المنار(2): الغيب هو ما حجب الله علمه عن الناس،بعدم تمكينهم من أسباب العلم به، لكونه مما لا تدركه مشاعرهم الظاهرة ولا الباطنة؛ كعالم الآخرة. وعرف ابن عاشور الغيب فقال(3): والغيب ما غاب عن علم الناس، بحيث لا سبيل لهم إلى علمه، وذلك يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن، والأعراض الخفية، ومواقيت الأشياء. وحصره الماوردي(4): في علم الماضي الذي لا يعلمه أحد، وعلم المستقبل.
وينقسم الغيب من حيث الزمان إلى:
غيب الماضي: كالعلم بأحداث القرون التي مضت.
غيب الحاضر: مثل تسجيل الملائكة الأعمال، وما يدور في النفوس.
غيب المستقبل: مثل العلم بالموجودات قبل إيجادها، وعلم وقت قيام الساعة، ومواقيت حدوث الموت.
كما ينقسم الغيب من حيث علم المخلوقين به إلى قسمين: غيب حقيقي، وغيب إضافي.
قال صاحب المنار(2): والغيب قسمان: غيب حقيقي مطلق؛ وهو ما غاب علمه عن جميع الخلق حتى الملائكة، وفيه يقول الله ـ عز وجل: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ) (النمل: 65). وغيب إضافي وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض؛ كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر، وأما ما يعلمه البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها، ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب، أو عجزهم عن استعمالها، فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله.
عالم الشهادة:
الشهادة لغة واصطلاحا: المعاينة أو الإخبار بالخبر القاطع،أو مجموع ما يدرك بالحس أو البصر من الموجودات. وعالم الشهادة هو عالم الأكوان الظاهرة..
ولقد تحدثت الآية الكريمة (وعنده مفاتح الغيب..الآية) في الجزء الثاني منها عن علم الله الشامل المحيط في عالم الشهادة.متمثلا بموجودات البر والبحر , كلياتها وجزئياتها , صفاتها وأحوالها ومآلاتها، ودقائق تفاصيلها وسنن تسخيرها.تحقيقا لقوله تعالى: (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) (الطلاق: 12).
ولم يحجب الله عن البشر الطرق والوسائل الموصلة للعلم بهذه الموجودات، بالقدر الذي يتناسب وطاقتهم وحاجتهم لتسخيرها، فيما ينفعهم للقيام بعمارة الأرض، ولا تعارض مطلقا بين علم البشر بأي شيء في هذا الوجود، وبين علم الله المحيط المطلق فيه.
وتطلق مفاتح الغيب في اللغة والاصطلاح على: الطرق والوسائل التي يتوصل بها للغيب أو على خزائن الغيب. ومفاتح الغيب جمع مضاف يعم كل المغيبات، أو هي علم الله بجميع الأمور الغيبية.(5) وقد خصص هذا العموم بعض المفسرين(6)؛ بخزائن الأقدار و الأرزاق، أو الثواب والعقاب، أو عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال.
والصحيح أن العموم في مفاتح الغيب خصصه النبي بخمسة أشياء فقط، بقوله عليه الصلاة والسلام: مفاتح الغيب خمس، وذكر آية لقمان (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا و وما تدري نفس بآي أرض تموت، إن الله عليم خبير) رواه البخاري.
الخلط بين العلم بمفاتح الغيب وعلم الله المحيط بعالم الشهادة.
لم ينظر معظم الذين كتبوا في هذا الموضوع من المعاصرين إلى جميع النصوص الواردة في قضية مفاتح الغيب الخمس، حينما نظروا إلى قول الله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ليزيلوا شبهة التعارض بين ما ثبت من الحقائق العلمية في علم الأجنة الحديث، وبين التفسير الشائع لعلم ما في الأرحام، الذي يدخل قضية علم نوع الجنين وصفاته الخلقية، في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فقالوا: إنه لا تعارض مطلقا بين علم البشر، وعلم الله لما في الأرحام، فعلم البشر علم جزئي، وعلم الله محيط شامل للذكورة والأنوثة وغيرها؛ من الأجل والرزق والشقاء والسعادة وغير ذلك، فوقعوا بهذا التفسير في خلط جلي؛ بين الغيب الحقيقي المقصور علمه على الله تعالى وحده في مفاتح الغيب الخمس، وبين علم الله المحيط الشامل لعالم الشهادة من الموجودات؛ والتي يمكن أن يتعلق ببعضها أو ببعض أجزائها علم البشر؛ بواسطة إدراك العلماء وتعلمهم لسنن الكون والحياة. لكن الناظر إلى قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر.. الآية) يجد أن الله سبحانه فصل بين القضيتين بوضوح و أن النبي قد أخبر أن الخمس الواردة في آية سورة لقمان هي مفاتح الغيب الخمس، بتحديد ظاهر لا لبس فيه.
هل يمكن أن يعلم البشر شيئا من مفاتح الغيب؟
اتفق جميع أهل العلم على أن مفاتح الغيب الخمسة؛ لا يعلمها إلا الله، ولا يخضع أي منها في كلياتها وجزئياتها، للسنن الكونية في عالم الشهادة، وبالتالي لا يمكن لمخلوق أن يعلم أي شيء منها، اعتمادا على سنن الاستكشاف في عالم الكون المنظور. قال ابن حجر: فالمراد بالغيب المنفي في قوله تعالى: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ) (النمل: 65) . هو المذكور في هذه الآية التي في لقمان(7). وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم علم كل شيء سوى هذه الخمس(8)، وقال القرطبي(9) بعد ذكره لنفس الآية: قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن، لأنه خالفه. وقال عبد الرحمن السعدي(10): وهذه الأمور الخمسة من الأمور التي طوى علمها عن جميع الخلق فلا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب فضلا عن غيرهما
وقد كان هذا الأمر واضحاً في كلام المفسرين ـ رحمهم الله ـ حينما فسروا الآية الكريمة (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر.).الآية..
قال الطبري(11): وعند الله علم ما غاب عنكم أيها الناس مما لا تعلمونه ولن تعلموه، مما استأثر بعلمه نفسه، ويعلم أيضاً مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم ولا يخـفى عليه شيء.
وقال محمد رشيد رضا(12): وعلمه تعالى بما في البر والبحر من علم الشهادة المقابل لعلم الغيب، على أن أكثر ما في خفايا البر والبحر، غائب عن علم أكثر الخلق، وإن كان في نفسه موجودا يمكن أن يعلمه الباحث منهم عنه. وقد بين الله تعالى لنا في هذه الآية أن خزائن علم الغيب كلها عنده، وعنده مفاتيحها وأسبابها الموصلة إليها، وأن عنده من علم الشهادة ما ليس عند غيره، وذكر على سبيل المثال علمه ما في البر والبحر من ظاهر وخفي.
وضوح القضية عند علماء السلف:
لقد كانت قضية مفاتح الغيب الخمس، واضحة تماما لا لبس فيها عند علمائنا السابقين. فعلم ما في الأرحام، وعلم وقت نزول المطر، كعلم وقت قيام الساعة سواء بسواء، من ادعى علم شيء منها فقد كذب بالقرآن، وخرج من ملة الإسلام، وكلام السلف علي الجملة صحيح، فهم يعتقدون أن علم إنزال الغيث وعلم ما في الأرحام هما مفتاحين من مفاتح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وأن ادعاء علم شيء فيهما وفق السنن تكذيب بالقرآن والسنة، وخروج من الملة. أما تعرض بعضهم لتفاصيل علم ما في الأرحام وإدخال قضية العلم بنوع الجنين، في الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فقد تبين اليوم خطؤه، حيث ثبت بيقين أن العلم بنوع الجنين هو من عالم الشهادة؛ الخاضع لسنن الاستكشاف والمعرفة التي بثها الله في الخلق. وإدخال هذه القضية في الغيب المحظور إنما كان اجتهاد منهم ـ رحمهم الله ـ وليس فيه سند من قرآن أو سنة. أو لعله من باب تفسير عموم ما في الأرحام الوارد في الآية من غير نظر إلى حديث النبي الذي خصصه بمفاتح الغيب الخمس.
علم ما في الأرحام الذي لا يعلمه إلا الله هو علم ما تغيض الأرحام:
أخبر النبي عن عدد ومسمى مفاتح الغيب في صيغتين: الصيغة الأولى تشير إلى القضايا التي وردت في آية سورة لقمان، قال النبي : مفاتح الغيب خمس، ثم قرأ الآية (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث وبعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) رواه البخاري وغيره
و في الصيغة الثانية من الخبر يقول النبي : (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) رواه البخاري.
فنحن الآن أمام حديثين وردا بصيغتين مختلفتين، في موضوع واحد، هو تحديد عدد ومسمى مفاتح الغيب، وصيغة الحديث الأول تماثل صيغة الحديث الثاني، في ثلاث قضايا هي:علم الساعة، وعدم دراية الأنفس لكسبها، ومكان موتها، وهذه الثلاثة غيب حقيقي لا يعلمه إلا الله باتفاق العلماء، لكن الحديثين يختلفان في مسمى قضية إنزال المطر، وقضية ما في الأرحام.. فالحديث الأول أشار إلى أن الصيغة العامة لهما هي مفتاح الغيب، في قوله تعالى: (وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام). وأما الحديث الثاني فقد عدل عن صيغة العموم إلى صيغة الخصوص، فقد سماهما النبي بألفاظ مخصوصة محددة فقال: (ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله). وبالجمع بين الروايتين يصير غيض الأرحام، وزمن مجيء المطر، هما الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وبالتالي يصبح مراد النبي في اللفظ العام في آية سورة لقمان بناء على الحديث الأول، هو المعنى المحدد باللفظ الخاص في الحديث الثاني. وبهذا تتوافق النصوص وينتهي الإشكال. و يكون غيض الأرحام هو أحد مفاتح الغيب الخمس، لا الذكورة ولا الأنوثة ولا العلم بصفات الجنين، و يكون أيضاً العلم بوقت نزول المطر الوارد في الحديث هو أحد مفاتح الغيب الخمس، لا مطلق إنزال الغيث الوارد في الآية الكريمة.
آية سورة الرعد تشرح معنى ما في الأرحام
وبالجمع بين النصوص الواردة في الموضوع أيضا يتضح الأمر فقد وردت في سورة الرعد آية تجمع بين العموم لما في الأرحام، وعلم الله المحيط به، وبين علم غيض الأرحام الذي لا يعلمه إلا الله؛ وهي قوله تعالى: }اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ| (الرعد: 8).
فعلم الله لما تحمل كل أنثى، كعلم الله لما في الأرحام، من حيث دلالة (ما) الموصولة في كلتا الآيتين، فاللفظ فيهما عام شامل لكل ما يتعلق بعالم الغيب والشهادة في الحمل، وهذا المعنى العام المجمل، فصل بقوله تعالى: (وما تغيض الأرحام وما تزداد) أي إن الله يعلم ما تغيض الأرحام و ما تزداد؛ فالعلم المتعلق بغيض الأرحام هو من الغيب المقصور علمه على الله تعالى؛ استنادا للحديث. والعلم المتعلق بازدياد الأرحام بالأجنة؛ هو من عالم الشهادة؛ وعلم الله فيه علم إحاطة وشمول. ويؤكد هذا قوله تعالى في الآية التالية: (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال)؛ إشارة إلى أن في الآية السابقة؛ جزء من عالم الغيب وهو (ما تغيض الأرحام)، و جزء من عالم الشهادة؛ وهو علم الله المحيط الشامل لأحوال وصفات حمل كل أنثى على وجه البسيطة وما تزداد به الأرحام من هذا الحمل. والله تعالى أعلم .
وهنا يرد السؤال ما هو غيض الأرحام؟
يطلق الغيض في اللغة على: النقص, والغور, والذهاب, والنضوب. وقد جاء في المعاجم اللغوية: (غاض الماء غيضا ومغاضا): قل ونقص. أو غار فذهب. أو قل ونضب. أو نزل في الأرض وغاب فيها. وغاضت الدرة: احتبس لبنها ونقص. (المعجم الوسيط 2/668), وفى المفردات في غريب القرآن: (وغيض الماء ـ وما تغيض الأرحام) أي ما تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض, وقد دار تفسير العلماء لغيض الأرحام حول معنيين: الدم الذي ينزل على المرأة الحامل, والثاني: هو السقط الناقص للأجنة قبل تمام خلقها, قاله ابن عباس وقتادة(11): والضحاك(13) وقال الحسن(14) الغيض: الذي يكون سقطا لغير تمام، وقال محمد رشيد رضا(15): (وما تغيض الأرحام) من نقص الحمل أو فساده بعد العلوق. وقال الأصفهاني في غريب القرآن(16): (غيض الأرحام: ما تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض). وقال عبد الرحمن بن ناصر السعدي(17): (وما تغيض الأرحام) أي تنقص مما فيها، إما أن يهلك الحمل، أو يتضاءل، أو يضمحل. وعرف علماء اللغة أيضا السقط بأنه: الجنين يسقط من بطن أمه قبل تمامه(18). وعرفوا الغيض بأنه السقط الذي لم يتم خلقه(19).
إذن يمكننا القول بأن السقط المفسر للغيض والمراد في كلام علماء اللغة والتفسير هو: الجنين الذي سقط من بطن أمه قبل اكتمال خلقه، أو هو الجنين الذي يهلك في الرحم؛ ويتحلل ويغور وتختفي آثاره منها، ويصدق عليه أن الرحم تبتلعه كما تبتلع الأرض الماء.
علم الأجنة الحديث يجلّي الحقيقة:
يقول علم الأجنة الحديث: عندما تهلك الأجنة في الأسابيع الثمانية الأولى من عمرها؛ إما أن تسقط خارج الرحم, أو تتحلل وتختفي تماما من داخله, ويسمي علماء الأجنة هذا الهلاك بصورتيه: الإسقاط التلقائي المبكر. وهو متوافق تماما مع أقوال علماء اللغة والتفسير في تعريفهم للغيض.
وعليه يمكننا أن نقول: بأن غيض الأرحام هو الإسقاط التلقائي المبكر. وهو الذي يحدث خلال الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل، وهو ظاهرة شائعة, ونسبة حدوثه كبيرة, إذ
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]تصل إلى حوالي 60%, في الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل. وفي عدة مشاهدات للسقط المبكر لم يكن الجنين موجودا؛ أي إن الجنين قد تحلل واختفى داخل الرحم. وعدم رؤية جنين بالمرة في حويصلة الحمل, يسمى كيس الحمل الفارغ, وتمثل هذه الحالات حوالي نصف حالات السقط التلقائي المبكر, وبعد اكتشاف جهاز الأشعة فوق الصوتية واستخدامه في تشخيص الحمل ومتابعته؛ تأكدت حالات غور الأجنة واختفائها من داخل الأرحام.(20) انظر شكل (1).
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]شكل رقم (1) صورة لكيس حمل فارغ قد تحلل فيه الجنين واختفى شكل رقم (2) صورة لتوأمين داخل الرحم غار أحدهما واختفى في كيس الحمل
ويشيع هذا في حالات ظاهرة التوائم المتلاشي وأكدت عدة دراسات حديثة شيوع هذه الظاهرة؛ إذ بلغت نسبتها حوالي 50% من حمل التوائم. ويقول أحد المراجع الطبية(21): يغور وينضب ويختفي أحد التوأمين تماما من داخل الرحم في الفترة المبكرة من الحمل. وقد شخصت هذه الحالات بجهاز الأشعة فوق الصوتية فبعد رؤية جنينين في الرحم بهذا الجهاز, أصبح لا يرى إلا جنين واحد منفرد, وبجواره كيس صغير يحتوي على مادة كثيفة تدل على موت جنين سابق. وفي خلال 4 ـ 6 أسابيع يمكن أن يختفي هذا الكيس تماما, ويزول معه الدليل على وجود حمل لجنين سابق آخر (انظر الشكل 2). كما يمكن أن يشخص حمل عديد الأجنة ـ بأكياس حمل وأجنة حية ـ ثم عند الوضع لا يولد إلا جنين واحد تام مكتمل. (أما بقية الأجنة فقد غارت وابتلعتها الأرحام. وقد لا يسقط محصول الحمل بعد موت الجنين تلقائيًّا, بل يبقى لفترة طويلة داخل الرحم ويسمى الإجهاض المخفي، انظر شكل(3).
والنسبة الغالبة منه مآلها إلى الإسقاط التلقائي، لكن يحدث في بعض صوره أن يغور الجنين ويرتشف, ولا يكون له أي أثر داخل كيس الحمل. فيصير الجنين مع الرحم كالماء الذي حبسته الأرض وابتلعته. ويتغير فيه حجم الرحم فيأخذ في الصغر والجمود ـ نظرا لامتصاص السائل الأمنيوسي وحدوث تهتك في الجنين. ولله در الشيخ السعدي الذي فسر الغيض بالسقط بصورتيه وكأنه طالع أحوال الأجنة الهالكة في أحدث المراجع العلمية. قال: (وما تغيض الأرحام) أي تنقص مما فيها؛ إما أن يهلك الحمل (السقط الذي يلفظه الرحم) انظر (شكل 4), أو يتضاءل (الإجهاض المخفي حيث ينكمش الجنين ويتضاءل), أو يضمحل (الأجنة التي تتلاشى في الرحم). وتقول المراجع الطبية(22): ما زالت الإجابة غير معروفة ومحددة لهذا السؤال. لماذا تسقط بعض الأجنة بعد موتها ولماذا لا يسقط بعضها الآخر؟.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]شكل رقم (3) صورة لجنين متهتك داخل كيس الحمل فيما يعرف بالإجهاض المخفي شكل رقم(4) صورة لسقط لفظه الرحم قبل تمام خلقه
ماذا يعني العلم بغيض الأرحام؟
العلم بغيض الأرحام بعني العلم المسبق بحدوث الإسقاط التلقائي المبكر بشقيه قبل تمام تخليق الجنين برغم توفر مقدمات الخلق الضرورية ومادته الأولى، وتهيؤ الأسباب وانتفاء
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الموانع لحدوثه فيتخلص الرحم من تلك المواد الأولية؛ إما بإسقاطها أو بغورها واندثارها؛ وذلك لبيان أن الإيجاد بعد العدم والإعدام بعد الوجود ظاهرة متكررة تبين إمكان وقوع البعث بالنظير والضد، وأن التخليق هو اختيار من الفاعل المختار. وعلى هذا يكون المراد بعلم غيض الأرحام الذي لا يعلمه إلا الله هو العلم بمستقبل هلاك الأجنة المبكرة أو بمعنى آخر: العلم بإرادة الله في إنشاء إنسان جديد من عدمه. وأن هذا العلم مقصور على الله وحده، ويستحيل على البشر بل وعلى الخلق جميعا معرفته.
استحالة العلم المسبق بحدوث الإسقاط التلقائي المبكر
يمر الجنين خلال مرحلة التخليق بتحولات خطيرة وكبيرة ومعقدة للغاية. ومازالت جوانب كثيرة من هذه التحولات تشكل لغزاً محيراً للعلماء مثل الإنقسام السريع للخلايا الجنينية، وتمايزها إلى خلايا وأعضاء مختلفة التركيب والوظيفة. وتحدث خلال هذه الفترة الحرجة تغيرات مفاجئة قد ينجم عنها خلل في الصبغيات أو الجينات تؤدي إلى هلاك الجنين المبكر بنسبة عالية قد تتجاوز 60% من كل الإسقاط التلقائي المبكر عند كل النساء، هذه التغيرات المفاجئة والمميتة ما زالت خارج نطاق العلم القطعي بحدوثها، وذلك لأن معظم أسبابها مجهولة، ويصعب جداً، بل يستحيل في كثير من الأحيان الكشف عنها مسبقا أو حتى توقع حدوثها.
ومن ناحية أخرى فإننا إذا نظرنا إلى المسببات المعروفة لهلاك الأجنة المبكرة وحدوث الإسقاط التلقائي لها، نجد أنها مسببات عديدة ومتداخلة ويستحيل التنبؤ بحدوث معظمها؛ فالنمو غير الطبيعي للبييضة الملقحة (zygote):الناتج عن خلل في عدد الصبغيات والذي يمثل أكبر سبب للسقط التلقائي المبكر يسبب خللا وانعداما في التوازن الحيوي لخلايا الجنين فيؤدي إلى هلاكه. و الخلل التركيبي في الصبغيات الذي يحدث نتيجة حدوث طفرات مفاجئة، لأسباب معظمها مجهولة، يؤدي إما لتغيير الوظائف الجينية العديدة، أو لتغيير مسار التمايز للخلايا الجنينية، فيهلك الجنين تبعا لذلك، (شكل 5).
والخلل في آليات الغرس للبيضة الملقحة في بطانة الرحم مثل: التحكم الهرموني المتخصص في الانقباضات، والحركة الدودية للرحم وأبواقه، والعوامل الهرمونية العديدة ذات الصلة بنضج بطانة الرحم، وتكون الغشاء الساقط، والإشارة الصحيحة أو المناسبة للانغراس، واستجابة الكيسة الأريمية له، والعلاقة الخلوية بين الخلايا المغذية (Trophoblast) وبطانة الرحم. فهذه العوامل يحب أن تتكامل، وتتوحد بدقة فائقة، حتى يتم تعشيش، البييضة الملقحة. فإذا فشلت إحدى هذه الآليات، فإن حياة البييضة الملقحة معرضة لخطر الهلاك وحدوث الإسقاط(23). (شكل 6)
كما أن تمايز الخلايا ونمو الجنين يتأثر بعوامل مختلفة، اكتشف منها حتى الآن أكثر من 100 عامل، بالإضافة إلى العوامل الجينية (Genetic)، وكثير من الهرمونات. والخلل في هذه العوامل يؤدى إلى موت الجنين وحدوث الإسقاط(23).
وهناك عوامل عديدة تؤثر على البيئة الداخلية للرحم والجنين: مثل الإشعاع، والفيروسات، والمواد الكيميائية، ويمكن أن يحدث بسببها تشوهات خلقية، فيهلك الجنين ويحدث الإسقاط(24). وهناك أيضا عوامل أمومية يمكن أن تسبب الإسقاط (25و 26) مثل:خلل الصبغيات التركيبي والعددي في بييضة الأم، والذي يزداد باضطراد مع كبر سنها. وأنواع مختلفة من الأمراض الإنتانية (infectious diseases)؛ كالإصابة بفيروسات الحصبة والحصبة الألماني والجدري وغيرها(27). والأمراض المزمنة المسببة للهزال الشديد مثل: الأورام السرطانية، ومرض السكري. والخلل الهرموني الذي يمكن أن يتسبب في هلاك الجنين، والنواقص الغذائية: وتناول الكحول والتبغ، والعوامل المناعية العديدة. ومعظم أسباب هذه العوامل مجهولة. حتى الصدمات النفسية والعضوية.يمكن أن تؤدي للإسقاط؛ فمجرد وهم الأم واعتقادها بأن حملها سوف يسقط، يمكن أن يكون سببا في حدوث الإسقاط.
إذا نظرنا إلى هذه العوامل العديدة والمتداخلة؛ البسيطة منها والمركبة من أكثر من عامل، وقدرنا حدوث أحدها وفق قانون الاحتمالات؛ فإننا نستنتج بيقين: أن التوصل للعلم القطعي بمستقبل هلاك الأجنة في أي طور من أطوار تخليقها الأولى، وحدوث الإسقاط التلقائي لها يعتبر ضربا من الخيال.
كما أن معظم هذه الأسباب في ذاتها غيب، فالخلل في الصبغيات كما قال العلماء يحدث بطريقة عشوائية ومتفرقة، ولا يمكن العلم بحدوثه قبل أن يحدث، والاضطرابات في العوامل الجينية العديدة المسوؤلة عن تمايز الخلايا ونموها، وما يمكن أن يتعرض له الجنين من العوامل الماسخة من الإشعاع والفيروسات والمواد الكيميائية، وما يمكن أن تتعرض له الأم من الصدمات النفسية أو العصبية أو الأمراض المختلفة في المستقبل، كل ذلك غيب، لا يستطيع أحد من البشر أن يجزم بحدوثها أو عدم حدوثها، وبالتالي فما يبنى عليها من حدوث الإسقاط التلقائي يظل غيبا لا يعلمه إلا الله.
وبناء على هذا، وعلى ما سبق من تقريرات النصوص الشرعية فإنه يستحيل على العلماء الآن، وفي المستقبل، معرفة مصير أي طور من أطوار الجنين، قبل اكتمال تخليقه ونفخ الروح فيه، هل سيتخلق إلى الطور الذي يليه أم يهلك، وتغيض به الأرحام. وذلك لأن معرفة هذا المستقبل والمصير لا يخضع لسنن الخلق المعروفة، وعلمه عند الله وحده، قد اختص به نفسه.
وعلى هذا يتحرر الغيب الحقيقي في الغيض، بعلم مستقبل هلاك الأجنة، أو بسقط الجنين قبل أن يتم خلقه، أو بمعنى آخر؛ بالعلم بمستقبل تطور وخلق مراحل الجنين الأولى، من النطفة، إلى العلقة،إلى المضغة، إلى إنشاء الخلق الإنساني الآخر بعد نفخ الروح في الجنين المخلق.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]شكل رقم (5) صورة للخلل العددي في الصبغيات والذي يؤدي إلى هلاك الجنين شكل رقم (6)
وعليه فكل اكتشاف للعلماء في المستقبل، لن يتعارض أبدا مع هذا الطرح لمفهوم علم غيض الأرحام، وتسلم لنا القضية كلها، على أساس أن جميع مفاتح الغيب ما هي إلا أمور
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]تتعلق بالمستقبل، وليس فيها شيء يتعلق بالماضي أو الحاضر في عالم الشهادة. وبهذا يحمي حمى النص، وتسلم دلالته الواضحة الجلية، من غير تعارض البتة مع أي حقيقة علمية، يمكن أن تكتشف في الحاضر أو المستقبل، في عالم الأجنة والأرحام، إلى أن تقوم الساعة.
مفاتح الغيب الخمس أمور تتعلق بالمستقبل
يمكن تقسيم العلم بالمستقبل إلى ثلاثة أقسام:
1. العلم بمستقبل الأشياء الموجودة في عالم الشهادة والخاضعة كلياً للسنن الكونية، وهذه يمكن العلم. بمستقبل زمانها من قبل العلماء العارفين بسننها، كمعرفة وقت طلوع الشمس وغروبها، ووقت الكسوف والخسوف وغير ذلك، لعشرات بل ولمئات السنين وبدقة بالغة، قال تعالى: (الشمس والقمر بحسبان) وهذا القسم خارج نطاق الغيب الحقيقي، الذي لا يعلمه إلا الله، ومعرفة المستقبل فيه متاحة للبشر.
2. العلم بمستقبل الأشياء المعدومة التي لم توجد بعد في عالم الشهادة، هل ستوجد أصلاً أم لا، وبالتالي فمستقبلها تابع لها، وهذا القسم فقط هو الذي لا خلاف عليه عند العلماء والعقلاء، أن علمه عند الله وحده، وهو غيب حقيقي، يستحيل على البشر أن يعلموا منه شيئًا، لأن أصله ومستقبله غير خاضع لأي سنة كونية معهودة، وذلك لانعدام وجوده.
3. العلم بمستقبل أو مصير أشياء موجودة في عالم الشهادة، يخضع وجودها لسنن الكون والخلق، لكن لا يخضع مستقبلها ومصيرها لسنن مشهودة، في عالم الكون المنظور، ويتجلى هذا التعريف، ويتوافق مع قضايا مفاتح الغيب الخمس.
فهذه الدنيا الموجودة والمشهودة، لا يستطيع أحد أن يعلم يقينا زمن انتهائها وزوالها، وهو ما يعرف بتحديد وقت قيام الساعة؛ وهو المستقبل المحظور على الخلق معرفته، (ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله). حتى مع وجود علامات على قربها، لأن معرفة هذا الزمن لا تخضع لسنن مشهودة.
وهذه السحب التي تتكون في كل لحظة، وفق سنن الكون على مدار الليل والنهار، وتغطي مساحات شاسعة من غلاف الأرض، لا يستطيع أحد من الخلق أن يعلم يقينا مستقبل هذه السحب، قبل أن يكتمل تكونها، وتنعقد أسباب الإمطار منها، هل ستكون سحبا ممطرة أم لا؟ ومتى وأين ستمطر هذه السحب؟ هذا هو المستقبل المجهول للبشر؟ والذي لا يخضع للسنن المشهودة، بل هو في علم الله وحده (ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله)
وهذه الأنفس التي تملأ الأرض، وتخضع لسنن الخلق، لا تعلم يقينا كسبها من الخير والشر، وذلك مع كدها وحرصها على ذلك، فمستقبل الكسب محجوب ومجهول لها حتى في الزمن القريب، ولا يخضع هذا لسنن مشهودة، بل هو مما أختص الله وحده بعلمه (ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا).
وكذلك لا تعلم يقينا هذه الأنفس الخاضعة لنواميس الحياة، موعد رحيلها من هذه الدنيا، فالمستقبل المحجوب والمجهول لها؛ هو موعد نهاية حياتها ووجودها بالموت مكانا وزمانا، وهو لا يخضع لسنن الكون المعهودة، وإنما علمه عند الله وحده (ولا تدري نفس بأي أرض تموت).
وهذه النطف الأمشاج التي يخلق الله منها الإنسان، وقدر فيها كل مخلوق بإحكام وإبداع، ترى وتقرأ فيها اليوم في عالم الشهادة شبكة الصبغيات الدقيقة، وخريطة الجينات البالغة الدقة، والتي تخضع لسنن في الخلق ثابتة، وتعرف بها أحوال، وهيئات في مستقبل الخلق، ثم تتطور هذه النطفة إلى العلقة والمضغة، كل طور فيها خلق يختلف عن الآخر، وقد أصبحت هذه الأطوار مرئية مشهودة؛ بهيئاتها الكلية وتفاصيلها الجزئية، لكن يبقى مصير هذه الأطوار مجهولا، أيتم تخليقها وينشأ منها الخلق الآخر الذي تنفخ فيه الروح، أم تسقط أو تتلاشى هذه الأطوار في أغوار الرحم؟ هذا هو المستقبل المحجوب عن علم البشر، والذي لا يخضع لسنن مشهودة، ويستحيل على الخلق جميعا القطع به، بل علم ذلك خاضع لسنن غيبية لا يعلمها إلا الله (ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله).
إن مستقبل هذه الأشياء الخمسة ومصيرها، لا يخضع لسنن الشهادة ونواميس الحياة، وبالتالي يستحيل على البشر العلم بها، علما تدرك فيه الأشياء بكيفية اليقين، لا بالتخمين والظنون، ولا حتى الملائكة الموكلون بتنفيذ إرادة الله في الخلق يعرفون ذلك مسبقا. وسؤال الملك الموكل بالرحم ربه؛ عن مستقبل ومصير كل طور من أطوار الجنين الأولي هل ستتخلق أم لا خير دليل على ذلك.
روى البخاري ومسلم بسنده عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي قال: وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضى خلقها، قال أي رب أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه. ويعضد ذلك أيضا تفسير بعض العلماء لقول الله تعالى: }إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الأَرْحَامِ| (لقمان: 34)
قال ابن كثير(28): (وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه)، (وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا، علم الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه).
قسم ابن كثير الأمر إلى قسمين: قسم يتعلق بالحدث قبل إيجاده، أي قبل تكون الغيث واكتمال كل أسباب الإمطار منه، وقبل تكون ما في الأرحام وبروزه لعالم الشهادة، هذا القدر هو الذي يدخل فيما اختص الله وحده يعلمه، وهو المقصود ابتداء في الآية، بنص الحديث الذي حددها بأنها مفاتح الغيب الخمس، وأما بعد بروزهما لعالم الشهادة، وخضوعهما لسنن التسخير والخلق، فهذا ليس من عالم الغيب بل من عالم الشهادة.
قال محمد رشيد رضا في المنار في قوله تعالى (ويعلم ما في الأرحام): (إذ معنى الحصر أن ما سيحدث في عالم الحيوان من التكوين في المستقبل هو من خزائن الغيب التي لا يحيط بما فيها إلا الله ومفاتح العلم بأي شيء منه عنده)(30).
وقال الشيخ ناصر بن أحمد الراشد الرئيس العام لشؤون الحرمين سابقا: إن علم البشر متى يكون نزول المطر هو أمر مستحيل، ولا يرد على ذلك أن بعض الناس يدرك نزول المطر متى انعقدت أسبابه، بحيث يغلب على الظن ذلك، إذا نشأ السحاب الممطر عادة، وهبت الرياح التي يصاحب هبوبها نزول المطر، وتهيأ الجو المشبع بالرطوبة، والذي تعتمد عليه وعلى غيره من الأسباب الأخرى، الأرصاد الجوية في حدسها وظنونها. وما لم تنعقد هذه الأسباب فلا أحد يعلم متى ينزل المطر(31)
الإعجاز في التحدي بمفاتح الغيب الخمس
أخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن هناك غيبا لا يعلمه إلا هو، وسماه مفاتح الغيب في قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) وحدد النبي هذا الغيب في خمسة أشياء: علم وقت قيام الساعة، وكسب الأنفس حتى في الزمن القريب (الغد)، ومعرفة مكان وزمان موتها، وعلم ما تغيض به الأرحام، وعلم وقت نزول الغيث. أي إن هذه الأشياء الخمسة المغيبة محجوبة عن علم الإنسان وإدراكه، وعلمها مقصور على الله وحده. وبالتالي لن يتمكن البشر مهما حاولوا أن يعلموا هذا الغيب، وقد تحدتهم نصوص القرآن والسنة في هذه الخمس، في زمن سادت فيه الكهانة والعرافة والتنجيم والسحر فعجزوا واستمر هذا التحدي للإنسان عبر القرون حتى اكتشف عددا من السنن الكونية، في هذا الزمان، فعرف بها بعض المجهول في الكون والحياة؛ وهو مع كل ذلك العلم عاجز تماما أن يعرف، ويعلم بيقين هذه المغيبات الخمس، برغم توفر ووجود مقدمات لها من جنسها، فوقت قيام الساعة برغم اليقين العلمي الآن: أن الكون سينكمش ويطوى، ويعود كما بدأ، وبرغم اليقين الشرعي بوجود علامات لها، صغرى وكبرى، إلا أنه سيظل الوقت المحدد لانتهاء هذه الحياة، و تبدل الأرض غير الأرض والسموات، غيبا حقيقيا لا يعلمه إلا الله، وستأتي الساعة للخلق بغتة وفجأة، ويستحيل تحديد موعدها بالضبط، حتى بعد تحقق جميع علاماتها الكبرى. وكذلك مهما حاول الإنسان بشتى الطرق، أن يعلم بيقين كسبه من الخير في مستقبله القريب والبعيد، ومكان وزمان موته بالتحديد، لن يجني من محاولاته إلا السراب، برغم توافر كثير من المقدمات والأسباب، أمامه في هذين البابين.
كذلك أيضا قضية إنشاء إنسان جديد، برغم توفر مقدماتها والتي أصبحت مشاهدة الآن، بعدما تم تصويرها ورؤيتها بالعين، وبرغم وصول الإنسان إلى كم هائل ودقيق في معرفة كثير من سنن الخلق في عالم الشهادة، إلا أنه سيظل عاجزا عن إدراك ومعرفة سر إنشائه وخلقه وسيظل عاجزا أن يعلم بيقين هل كل طور جنيني صحيح أو شبه صحيح سيتحول إلى الطور الآخر، وهل سيتخلق إنسان جديد أم لا؟ بمعنى هل كل نطفة أمشاج تتحول إلى علقة؟ وهل كل علقة تتحول إلى مضغة؟ وهل كل مضغة سيتم تخليقها وتصويرها، وتنفخ الروح فيها، وتنشأ خلقا آخر، ويزداد بها الرحم؟ أم تتوقف سنن الخلق الغيبية في أي طور من هذه الأطوار المبكرة، فتهلك هذه الأطوار، معبرة عن إرادة الله بعدم إنشاء إنسان جديد من هذه المقدمات والمكونات، وتتخلص الأرحام منها إما بإسقاطها، أو بتحللها واختفاء آثارها؟
إن العلم بمستقبل الأجنة المبكرة في أطوارها الصحيحة أو شبه الصحيحة، هل هي هالكة أم مخلقة؟ وبمعنى آخر؛ هل يغيض الرحم بها أم ينشأ منها إنسان جديد تنفخ فيه الروح ويزداد به الرحم؟ هذا العلم هو الغيب الحقيقي الذي لا يعلمه إلا الله. أي إن العلم بمشيئة الله في الخلق هو مفتاح الغيب.
كذلك أيضا سيظل الإنسان عاجزاً عن المعرفة اليقينية القطعية بوقت نزول المطر، وخصوصا قبل تكون السحب الممطرة، أو أثناء تكون أطوارها الأولى، بل وما زال الظن والاحتمال هو حديث علماء الأرصاد والسحب عن وقت نزول المطر، حتى بعد بروز السحب الممطرة لعالم الشهادة، وخضوعها لسننه. وهذا العجز للإنسان بعدم علمه اليقيني في هذه الأمور الخمسة، في هذا الزمان، يعتبر تحديا وإعجازا علميا للقرآن والسنة، فكأن الله سبحانه يقول أنتم تعلمون؛ وهيهات أن تفتحوا أحد هذه الأبواب، وتعرفوا سننها وتخبروا عما فيها بيقين! بخلاف أبواب العلم في عالم الشهادة فمفتوحة أمامكم، وسننه مبثوثة مشهودة، فسيروا وانظروا وتفكروا واعملوا، فكل ما في السموات والأرض مسخر لكم! أليس ذلك دليلا واضحا جليا على أن محمدا لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
الخلاصة:
1. مفاتح الغيب هي: السنن أو الطرق الموصلة لاستكشاف الغيب الحقيقي المقصور علمه بكلياته وجزئياته على الله تعالى، أو هي خزائن الغيب، أو هما معا. ومفاتح الغيب الخمس محجوب علمها عن الخلق جميعا، ولا يعلمها علما ذاتيا إلا الله وحده. أما علم الله المحيط الشامل لعالم الشهادة، فليس من مفاتح الغيب الخمس.
ٍ2. وفقا للقواعد الأصولية التي توجب الجمع والتوفيق بين النصوص الواردة في نفس الموضوع، فإن العموم الوارد في آية سورة لقمان: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام..الآية) يراد به الخصوص الوارد في الحديث (مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله..الحديث). وعليه فإن العلم الذي لا يعلمه إلا الله لما في الأرحام، هو علم ما تغيض الأرحام، والعلم الذي لا يعلمه إلا الله في إنزال الغيث هو العلم بوقت نزوله.
3. غيض الأرحام هو هلاك الأجنة المبكر، أو ما يعرف طبيا بالإسقاط التلقائي للأجنة في أطوار خلقها المبكرة، أي في الأسابيع الثمانية الأولى بعد التلقيح، ويشمل الأجنة التي تبتلعها الأرحام أو تلفظها.
4. العلم بغيض الأرحام يعني: أن العلم بمستقبل تخليق أطوار الأجنة الأولى، من طور إلى طور، هل هي هالكة أم مخلقة؟ غيب لا يعلمه إلا الله وحده؛ وهذا يعني أن مشيئة إنشاء إنسان جديد من عدمه، في علم الله وحده.
5. قضية الذكورة والأنوثة والتشوهات الخلقية للأجنة في بطون أمهاتها، ليست من مفاتح الغيب الخمس، بل هي من عالم الشهادة، والقطع فيها بالعلم من قبل الأطباء والخبراء ليس من الغيب الحقيقي، بل هي من الأشياء الخاضعة لسنن الاستكشاف، والذي أمرنا بالتعرف عليها. وعليه فالقول بتكفير وتفسيق من يجزم بالإخبار عن نوع الجنين في بطن أمه من الأطباء، قول غير صحيح.
أسأل الله العظيم أن تكون الحجة قد وضحت وانجلت الشبهة وزال الالتباس. والحمد لله رب العالمين..