هـذه الية الكريمة جاءت في منتصف سورة يس , وهي سورة مكية , وياتها ثلاثة وثمانون (
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]83) بعد البسملة , وقد سميت بهذا الاسم الذي قيل فيه إنه من المقطعات الهجائية التي استفتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرن الكريم , أو أنه من أسماء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ، أو لقب من ألقابه الشريفة ، وذلك بدليل توجيه الخطاب إليه مباشرة في جواب القسم بالقرن الحكيم على صدق رسالته وذلك بقول الحق ـ تبارك وتعالى :
" يس . وَالْقُرْنِ الحَكِيمِ . إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ . عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . تَنزِيلَ العَزِيزِ الرَّحِيمِ . لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ بَاؤُهُمْ فَهُمْ
غَافِلُونَ " (يس:1-6) . وهذا الاستهلال العظيم الذي يلخص طبيعة الرسالة التي أوحى بها رب العالمين إلى خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ، وهذا القسم المعظم بالقرن الحكيم على حقيقة نبوته وصدق رسالته , وعلى استقامة منهج تلك الرسالة السماوية الخاتمة التي أنكرها كثير من الكفار والمشركين , والعصاة الضالين الغافلين , والتي أنزلها رب العالمين إنذاراً لأهل الجاهلية الذين كانوا قد فقدوا الصلة بوحي السماء , فانحرفوا عن منهج الله , وحادوا عن حقيقة رسالة الإنسان في هذه الحياة فضلوا وأضلوا , خاصة وأن المسافة الزمنية بينهم وبين خر رسالة سماوية كانت قد طالت، فلم يكن باؤهم الأقربون قد تلقوا مثل هذا الإنذار من الله , وهذا الإنذار كما كان لكفار ومشركي الجزيرة العربية هو للبلايين الغافلة في جنبات الأرض اليوم , ومن بدء البعثة المحمدية الشريفة وحتى قيام الساعة .
وبعد هذا الاستهلال الكريم تستمر سورة يس بقول ربنا ـ تبارك وتعالى :
" لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ . إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ . وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ . إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ . إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ " (يس:7-12) .
وهذه اليات الكريمة تصف حال الكفار والمشركين في زمن الوحي ، وإلى يوم الدين فتقول بأن الله ـ تعالى ـ يعلم بعلمه المحيط أن أكثر الناس لن يكونوا بمؤمنين، وهؤلاء المحكوم عليهم بالشقاء , كمن جعلت الأغلال في عنقه تجمع إليها يديه إلى ما دون ذقنه , فارتفع رأسه فصار مقمحاً ـ أي مرفوع الرأس من شدة الضيق والعذاب مع غض البصر , لا يستطيع أن يطأطئ رأسه لوصول الأغلال إلى ذقنه , وهو تمثيل رائع لحال هؤلاء المصرين على الكفر بالله ـ تعالى ـ أو على الشرك به , وعلى إنكار نبوة الرسول الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ، والكفر برسالته , وعلى عدم الخضوع للحق الذي جاء به , فجعل الله ـ تعالى ـ بينهم وبين الحق سدوداً من أمامهم ومن خلفهم , وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون الحق أبداً , فكأنهم قد حبسوا في حظيرة الجهالات , وحرموا من النظر في الدلائل واليات كالأعمى في جنح الظلام لا يرى نوراً , ولا يدرك طريقاً , وإنسان هذا شأنه لن يؤمن أبداً سواء جاءه من ينذره أو لم يجئه .
وتوجه اليات الحديث إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن إنذاره لا يفيد إلا من كان لديه الاستعداد الكامل لاتباع القرن الكريم , وخشية رب العالمين الذي لا يمكن له أن يراه في الدنيا، ولكن يرى ثار إبداعه في خلقه حيثما نظر , وهذا هو الذي يستحق البشارة بمغفرة الله لسيئاته , وبمضاعفة أجره الكريم على ما قدم من حسنات .
وتضيف اليات قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ بأنه يحيي الموتى , ويسجل على عباده ما قدموا في الدنيا من أعمال , وما تركوا وراءهم فيها من ثار , وكل شيء قد أحصاه الله ـ تعالى ـ في اللوح المحفوظ ، وهو كتاب واضح مبين , به كل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة .
وفي التأكيد على عدد من ركائز العقيدة الإسلامية، وهي المحور الرئيسي للسورة ضربت اليات بعد ذلك مثلاً بأهل قرية كان أهلها من عبدة الأوثان , فأرسل الله ـ تعالى ـ إليهم رسولين فكذبوهما , وعززهما الله برسول ثالث، وتقدم ثلاثتهم بدعواهم إلى عبادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وحده بغير شريك , ولا شبيه , ولا منازع , ولا صاحبة , ولا ولد , فكذبهم أهل هذه القرية الظالمة , ونفوا رسالتهم , كما نفوا وحي الله ـ تعالى ـ إليهم , فأجاب المرسلون بأن الله ـ جل جلاله ـ يعلم بأنه أرسلنا إليكم , وأن وظيفة الرسول هي مجرد البلاغ المبين عن رب العالمين , والأمر بعد ذلك متروك إلى الناس
" فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ " , وعلى الرغم من هذه السماحة فقد أخذت أهل القرية العزة بالإثم، وردوا بغلظة بالغة عليهم يلخصها القرن الكريم في اليتين الكريمتين التاليتين فيقول :
" قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ " (يس:18-19) .
وجاءهم رجل من أقصى المدينة سمع بالدعوة إلى دين الله فاستجاب لها ، ومن بها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق , وعلامات الصدق , وسوية المنطق ، جاء يدعو قومه الضالين وهم يجحدون الحق , ويتوعدون الرسل ويتهددونهم :
" وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ . اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِـن دُونِهِ لِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ . إِنِّي مَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ " (يس:20-25) .
ويوحي تتابع اليات بعد ذلك أن كفار القرية قتلوا هذا العبد المؤمن , وأن الله ـ تعالى ـ أكرمه بمنازل الشهداء , وتروي اليات حواراً معه وهو في العالم الخر على النحو التالي :
" قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ " (يس:26,27) .
وتؤكد اليات ما نزل بقومه من العذاب , كما نزل على من سبقهم من الأمم المكذبة بدين الله , وكما ينزل اليوم بالمكذبين المعاصرين , وكما سينزل مستقبلاً على أمثالهم من الكفار والمشركين الثمين إلى يوم الدين , وفي ذلك تقول اليات متحسرة على الذين لا يتعظون بمصارع الهالكين :
" وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ . إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ . يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ . أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ . وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ " (يس:28-32) .
وتستمر السورة من الية رقم (33 إلى 44) في استعراض عدد من اليات الكونية الدالة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في جنبات الكون , والمثبتة لحقيقة الألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة للإله الخالق البارئ المصور فوق جميع خلقه .
ومع وفرة هذه اليات الكونية ووضوحها لكل ذي بصيرة ، فإن الغالبية من العباد في غفلة عنها , ومع كثرة أنبياء الله ورسله الذين أرسلوا لهداية أهل الأرض إلى حقيقة وجودهم ورسالتهم في هذه الحياة ، وزودوا بالعديد من اليات والمعجزات التي تشهد على صدق دعاواهم ، فإن غالبية أهل الأرض سخروا من أنبياء الله ورسله ، وكذبوهم ، وتطاولوا عليهم , وخالفوا أوامرهم , واستعجلوا البعث الذي وعدوا به , والعذاب الذي أنذروا به وهم لا يدرون أن الله سريع الحساب وفي ذلك تقول اليات :
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ . وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ يَةٍ مِّنْ يَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ مَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ . وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ . فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ " (يس:45-50) .
و(الصيحة الواحدة) هنا هي نفخة الصعق التي يموت على أثرها كل حي علي حاله ,
" وَهُمْ يَخِصِّمُونَ " أي مشغولون بالدنيا يتخاصمون ويتنازعون فيما انهمكوا فيه من شئونها , غافلين عن الخرة وأهوالها .
ثم تنتقل اليات إلى مشهد البعث فتقول :
" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ . قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ . إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ . فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " (يس:51-54) .
و(نفخة الصور) هنا هي نفخة البعث التي يُبعث على أثرها جميع من في القبور مندهشين مذعورين متسائلين :
" مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا " ؟ ثم يتذكرون ما وعدوا في حياتهم الدنيا فكذبته غالبيتهم، فيعترفون في صغار وذلة قائلين :
" هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ " . ثم تأتي صيحة العرض الأكبر أمام رب العالمين , وهي صيحة واحدة يجمع على إثرها جميع الخلق أمام خالقهم لحسابهم , وإذا القرار العلوي يتردد في هذا الموقف الرهيب:
" فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون " (يس:54) .
وتأخذ اليات في التمييز بين نعيم أهل الجنة في الجنة، وشقاء أهل النار في الجحيم , وترتفع الأصوات مخاطبة أهل النار لتقول :
" وَامْتَازُوا اليَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ . أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي دَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ . وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ . وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ . هَذِهِ جَهَنَّمُ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . اصْلَوْهَا اليَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ . الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ . وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِياًّ وَلاَ يَرْجِعُونَ " (يس:59-67) .
" وَامْتَازُوا اليَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ " أي انعزلوا بعيداً وانفردوا وانفصلوا عن المؤمنين للقاء مصيركم من النار و
" أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ " بمعنى أوصيكم , أو أكلفكم , و
" جِبِلاًّ كَثِيراً " أي خلقاً كثيراً , و(اصلوها) أي قاسوا حرها , واحترقوا فيها .
و
" لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ " أي لمحونا أعينهم ومسحناها , و
" فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ " أي تبادروا إلى الطريق ليجوزوه فلم يستطيعوا ,
" فَأَنَّى يُبْصِرُونَ " أي فكيف يبصرون؟، ومعنى
" لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ " أي لبدلنا صورهم الإنسانية إلى مسخ خر وهم في أماكنهم .
هذا كله حين يحين موعد الخرة الذي يستعجلونه تكذيباً به , واستهتاراً بهوله , أما لو تركوا في الأرض , وعمروا طويلاًً , فإنهم صائرون إلى حالة من الضعف والعجز والشيخوخة والهرم يستعجلون معه الموت , وفي ذلك تقول السورة الكريمة :
" وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ " (يس:68) .
وهذه النكسة هي عاقبة المكذبين في الدنيا , فلا يلقون تكريماً من الله ـ تعالى ـ في ضعف الكبر , وعجز الحواس والأطراف , وكثرة الأمراض والعلل , بينما يكرم ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عباده الصالحين في كبرهم كما يكرمهم في خرتهم أما الكفار والمشركون , والطغاة الظالمون المتجبرون فعقابهم في الدنيا أكيد وحسابهم في الخرة أنكى وأشد .
وبعد ذلك تعاود سورة يس ما بدأته في أولها من تأكيد على حقيقة الوحي الذي أوحاه الله ـ تعالى ـ إلى خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم، وعلى صدق نبوته ورسالته , وعلى حكمة القرن وصفائه الرباني إلى الحد الذي يقسم به ربنا ـ تعالى ـ شأنه وهو الغني عن القسم بحقيقة كل ذلك، فتأتي اليات بالرد القاطع على الذين ادعوا على رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأنه شاعر , وعلى القرن الكريم بأنه شعر حين عجزوا عن الإتيان بشيء من مثله وهم في قمة من قمم الفصاحة والبلاغة وحسن البيان فتقول :
" وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْنٌ مُّبِينٌ . لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ " (يس: 69-70) .
وتنتقل اليات في ختام هذه السورة المباركة إلى استعراض عدد خر من يات الله في الكون حتى تكون شاهدة على طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق , وعلى قدرته ـ تعالى ـ على الإفناء والبعث , مستنكرة كفر الكافرين وشرك المشركين فتقول :
" أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ .وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ . وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ . وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ لِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ . لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ . فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ . أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ . وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ . الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ . أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ . إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ . فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (يس:71-83) .
وهكذا تختتم سورة يس بهذا الختام الرائع الذي يهز العقل والقلب معاًً , والذي فيه رد علمي دقيق على المشركين , وخطاب مطمئن رصين إلى خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليه , وعتاب رباني رحيم لكل إنسان مدرك لحقيقة خلقه من نطفة لا ترى بالعين المجردة , ولكل متشكك في إمكانية البعث بعد الموت , أن يدرك أن الله ـ تعالى ـ قد جعل لنا من الشجر الأخضر النار التي منها نوقد، والعديد من مصادر الطاقة المتاحة للإنسان , وأن يدرك أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وهو الخلاق العليم، ثم التأكيد على أن من صفات هذا الخلاق العليم أن يقول للشيء : كن فيكون؛ لأنه ـ تعالى ـ خالق كل من المادة والطاقة , والجمادات , والأحياء , والمكان والزمان , فلا يعصي أمره شيء من خلقه إلا عصاة الإنس والجن في فترة اختبارهم طوال حياتهم الأرضية القصيرة فقط , وقد أعطاهم ـ سبحانه وتعالى ـ العقل والنفس والشهوات والإرادة الحرة , وحرية الاختيار , وهم مع ذلك داخلون في دائرة قدر الله الغالب الذي لا خروج عليه ولا مهرب منه , ومن هنا ختمت هذه السورة المباركة بتأكيد أن الله ـ تعالى ـ بيده ملكوت كل شيء , وأن مصير كل موجود إليه ـ سبحانه وتعالى ـ فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه. وهذه اليات الجامعة تهز القلوب الواعية، والعقول المستنيرة، والأبدان الطاهرة , ويتحرك لوقعها كل ما في الوجود .
من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة يس :
(1) الإيمان بأن القرن الحكيم هو تنزيل من رب العالمين لإنذار الخلق أجمعين إنذاراً نهائياًً ؛ لأنه خر الكتب السماوية المنزلة , وأتمها وأكملها , والكتاب السماوي الوحيد الذي تعهد ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بحفظه فحُفظ حفظاً كاملاً , بنفس لغة وحيه ـ اللغة العربية ـ على مدى الأربعة عشر قرناً الماضية سيظل محفوظاً إلى أن يرث الله ـ تعالى ـ الأرض ومن عليها .
(2) التصديق بجميع أنبياء الله ورسله , وعلى رأسهم إمامهم وخاتمهم أجمعين , سيدنا محمد بن عبد الله صاحب النور المبين , والصراط المستقيم , الذي تاه الله ـ تعالى ـ جوامع الكلم , ولم يكن شاعراً , ولا الشعر ينبغي له؛ لأن غالبية الشعراء يتبعهم الغاوون .
(3) الإيمان بالله ـ سبحانه وتعالى ـ رباً واحداً أحداً , فرداً صمداًً , لا يشاركه في ملكه شريك , ولا ينازعه في سلطانه منازع , ولا يشبهه من خلقه أحد , وهو ـ تعالى ـ منزه عن الصاحبة والولد , وهو خالق كل شيء وغيره لا يخلق , ويعلم كل شيء فلا يخرج شيء عن علمه من سر أو نجوى أو علن , وأنه يحيي الموتى ويكتب ما قدموا وثارهم , وأن كل شيء محصى عنده في اللوح المحفوظ , وهو العزيز الرحيم النافع الضار , الذي بيده ملكوت كل شيء واليه يرجع الخلق أجمعون , وهو أحكم الحاكمين , فأمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون , وهو الذي ينزل رحماته على من يشاء من عباده المتقين .
(4) اليقين بأن الشرك بالله ـ تعالى ـ كفر به , وأنه من أبشع ألوان ظلم الإنسان لنفسه , وأنه من وساوس الشيطان، وأن الشيطان للإنسان عدو مبين , ولابد لكل عاقل من تطهير عقيدته من أبسط ألوان الشرك؛ لأن التوحيد الخالص لله هو هداية الله ـ تعالى ـ لخلقه، وهو رسالة كل أنبياء الله والمرسلين منهم .
(5) التصديق بحتمية الموت , وبحتمية البعث والنشور على جميع الخلق , وبحتمية الحساب والجزاء , والخلود الأبدي في الحياة الخرة إما في الجنة أبداً أو في النار أبداًً , والتسليم بحقيقة الجنة ونعيمها , وحقيقة النار وجحيمها .