الحقيقــــة المُرةفي اليوم التالي بعد العصر.. سأذهب إلى قرية 'ساليس' لأقابل الوالد العصبيّ، آمل أن أجده في مزاج رائق، لا يزال الجو حارا لذا ارتديت ثيابا خفيفة ولائقة ووضعت نضرات شمسية ثم انطلقتُ بسيارتي متجها إلى 'تل الضباب'.. كنت أقود بسرعة ثمانين كيلومتر في الساعة وقد كان الطريق طويلا وخاليا من رجال الأمن لذلك كنت أقود بكل حرية.. مررت بلافتات ترشد إلى 'تل الضباب' وإلى قرى مجاورة.. مضت نصف ساعة حين وصلت إلى طريق جانبي وعر يؤدي إلى هذا التل فانعطفت يسارا نحوه.. بدأت سيارتي بالإهتزاز بسبب الهضبات الصغيرة والأحجار التي أحاول قدر الإمكان تجنبها، أنا لن أقلق على سيارتي فهي من نوع الـ 'بارادو' أي مجهزة لمثل هذه الطرق الوعرة.. تابعت القيادة وبدأت بصعود التل لأصل إلى القرية التي لا أعرف كم تبقى من مسافة لبلوغها.. أمر بين حين لآخر ببعض السكان المحليين يجرّون حميرهم طلبا للماء، والكل ينظر بفضول.. لم يكن صعود التل بالسيارة صعب جدا بحد ذاته لكن الأحجار التي تملأ الطريق جعلته كذلك وبعض الحفر حفرتها الخنازير البرية موجودة هنا وهناك.. تجنبتها لكني فشلت في تجنب واحدة فعلقت عجلة سيارتي الخلفية.. حاولت تجاوزها لكن العجلة اكتفت بالدوران حول نفسها محدثة ضجة وغبار كثيف.. توقفت وانتظرت قليلا حتى رأيت مجموعة من الشبان ودون أيّ طلب مني عرضوا عليّ مساعدتهم.. قاموا بدفع السيارة وأنا أضغط دواسة السرعة وقد نجح ذلك حين قفزت العجلة أخيرا إلى خارج الحفرة.. حمدا لله.. شكرت أولائك الشباب شكرا جزيلا ثم واصلت القيادة حتى اقتربت من القرية..
لم تمض إلا عشرة دقائق فبلغت القرية أخيرا.. أوقفت محرك سيارتي عند ظل شجرة فعاد الهدوء إلى رأسي.. ترجلت ثم فعَّلت قفلها.. كان المكان خاليا من الناس إلا طفلا كان يعبث بالحصى وطلبت منه أن يدلني على منزل هذا الحاج فأعطيته قطعة نقدية:
«بكل تأكيد يا عمي.. تعال واتبعني.. سأرشدك إلى متجره لأنه على الأرجح يوجد هناك وليس في المنزل.»
سرنا أنا وإياه حتى بلغنا المتجر فشكرت الولد ووعدته بقطعة نقدية أخرى قيمتها خمسة دراهم مقابل انتباهه لسيارتي..
سرت إلى المتجر.. المكان يسوده الصمت والسكون لا أسمع إلا وقع أقدامي وأنا أدوس التراب والأحجار التي تعثر سيري وأصوات العصافير والحشرات المختلفة بسبب الحرارة المرتفعة.. مسحت بمنديلي العرق المتلألئ على جبيني..
توقفت عند المتجر ورفعت نظاراتي الشمسية فوق رأسي.. وجدت الحاج منحني الظهر وغارق في فك لصاق صناديق السلع بسكين كبير، لقد بدا رجلا طيبا وهيئته تبدو عكس ما قالته ابنته..
كان مرتديا جلبابا متواضعا رمادي اللون وطاقية بيضاء.. أعلمته بوجودي حين ألقيت تحية الإسلام.. بسبب طول انحنائه اعتدل واقفا ببطء كأيّ مسن أرهقه العمل.. بعد أن استعاد توازنه نظر إليّ نظرة شاملة قبل أن يقول:
« وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. هل من خدمة..؟»
« لا أبدا.. جئت فقط قاصدا الحديث معك في أمر.. هذا كل شيء..»
كان كلامي مثيرا للاهتمام فأظهر رغبته في الاستماع إليّ:
« نعم.. أسمعنا الله أخبار الخير..»
«خير إن شاء الله.. أولا أود أن أعرفك عن نفسي.. أنا 'مروان' من مدينة 'أكادير' وأعمل موظف في شركة تجارية و..»
قاطعني وقد طُبع الملل على ملامح وجهه وبدا كمُتكهنٍ بوراء قدومي إليه، اتضح لي انخفاض رغبته في الاستماع:
« نعم.. نعم.. بكل اختصار ماذا تريد..؟»
نظرت إليه للحظات ثم قلت:
« حسنا.. لقد جئت لأني أرغب في طلب يد ابنتك للزواج على سنة الله ورسوله.»
بعد قولي فاجأني حين عاد إلى ما كان يقوم به وهو يقول:
« ابنتي مرتبطة وستتزوج قريبا..»
لم أفهم ما قصده:
«أوَ لست بـ 'الحاج التاجر'..! لقد سألت الناس عن الفتاة التي أقصدها، فأخبروني أنها ابنتك وهي غير مرتبطة.»
أومأ برأسه وأجابني:
« بلى أنا أبُ 'ساليس'.. وأنا أعلم بها وليس الناس هم من يعلم.»
فجأة تحطمت حولي كل أحلامي التي كانت سراجا مضيئا أضاء حياتي، فعاد كل شيء أسود مثل الدُّجى وما عدت أقوى على شيء إلا التفكير في أمر واحد: 'لماذا لم تخبرني 'ساليس' بأيّ شيء عن هذا..؟!'
لقد تعكر مزاجي... لا أعرف كيف أصف حالي.. لقد تبعثرتْ وتناثرتْ أجزائي كلها.. عاد السؤال إلى رأسي: 'لماذا لم تخبرني 'ساليس' أنها ستتزوج من شخص آخر..؟'، كنت متأكدا من أن هناك أمرا تخفيه عني، فأسلوب حديثها كان مبهما حين رغبتُ في لقاء والدها.. لكن ما معنى هذا كله..!؟ نظرت إلى ساعة هاتفي وتشير إلى السادسة إلا ربع، عدت إلى سيارتي.. أبطلت قفلها ثم جاء الولد منتظرا القطعة النقدية التي وعدته بها.. لقد نسيت، أخرجتها من جيبي لكنها لم تكن خمسة دراهم بل كانت قطعة نقدية قيمتها درهمين، وليس عندي غيرها فأعطيتها له:
« آسف يا ولد.. لقد ظننتها خمسة دراهم.. إنك الآن تدين لي بثلاثة.»
لا أظن أني سأستطيع تسديد ديني لهذا الولد لأني لا أعتقد أن قدماي ستطآن هذا المكان مرة أخرى.. سأترك قدري وحده يحكم بذلك.
قدت سيارتي لأعود وحين وصلت إلى الطريق المؤدي مباشرة إلى البلدة زدْتُ في السرعة لأن ذلك يشعرني بالسكينة، لا وجود لرجال الأمن ومراقبي سرعة السيارات لذا أنا حر في القيادة..
وصلت إلى النُزل وشعرت برأسي يكاد ينفجر لذا أغلقت عيني وتركت الماء البارد ينصب من الرشاش على رأسي ربما تنطفئ ناري..
في الصباح التالي خرجت قاصدا المقهى.. لكن ليس مقهى 'بوعزة' فليس لدي أي مزاج لتحمل تحملقاته المزعجة وسماع مديحه الزائد لنفسه ولبلدته الكئيبة.. تناولت إفطاري بهدوء.. أخرجت هاتفي ثم اتصلت بها وأجابتني.. ألقيت تحية الصباح فظلت صامتة لأن نبرة صوتي كانت غريبة على مسمعها:
«لقد ذهبتُ إلى قريتك أمس وقابلت أباكِ.. أخبريني، لماذا قال لي أنك قريبا ستتزوجين..؟ ألأن ذلك كان صحيحا..؟»
انتظرتُ ردها فقالت وكأن الكلمات صارت أثقل من الصخور العظيمة:
« حسنا.. أبي قد فرض عليّ الزواج من ابن عمي..»
بعد قولها قلت مستنكرا:
«أتقولين ذلك أخيرا..؟ وبكل بساطة..؟ لمْ تخبريني بأيّ شيء من ذلك.. لماذا..؟ كيف يعقل ذلك..!؟ أتعبثين بي.. أكانت نواياي بالنسبة لك مجرد لعب..؟ أو تعلمين إذن..؟ لا يهمني أمرك.. كيف عساي أعبأ بلعوب مثلك..! فلتتزوجي من شئت و..»
سمعت رنين انفصال الخط.. لقد أنهت المكالمة.. أنا غاضب ومنزعج جدا.. لماذا أخفت عني كل ذلك الكلام..؟ والأهم من ذلك.. ماذا تريده مني وهي ستتزوج من ابن عمها..؟ هذا شيء يكاد يفقدني عقلي.. أم ربما أخفت الأمر إذ بعد علمي سأنسى أمرها.. على كل حال ما لزوم ذلك.. لا أرى أيّ سبب يبرر تصرفها..
بعد كل هذا، كان من الصعب عليّ نسيان أمرها ومحو صورتها من رأسي وهذا شيء يثير جنوني.. حاولت تهدئة أعصابي فاخترتُ هذه المرة الذهاب إلى مقهى 'بوعزة' بعد عصر هذا اليوم لأشاهد الدورة الأوربية لمباراة في كرة القدم وكانت بين الفريقين الريال والبرصا.. هدأت قليلا حين وجدت المكان مكتظا بالشباب في جو مليء بالحماس على صوت الجمهور وطبول المشجعين على الشاشة منتظرين ساعة بدء المباراة.. رأيت طاولتي ولاحظت أن لا مكان لي فيها، سبقني إليها خمسة شبان لذلك ذهبت إلى طاولة أخرى لأنضم إلى ثلاثة آخرين فجلست بهدوء قبالة الشاشة الكبيرة الموضوعة فوق رُفٍ عالي في زاوية السقف..
انتهت المباراة بتعادل بهدف لمثله في انتظار ما ستُسفر عنه المباريات القادمة في الأيام المقبلة.. قام الكل وغادرتُ مقهى 'بوعزة' وشكرت الله لأني لم ألتق بذلك الرجل.. ذهبت لأتمشى قليلا.. الشارع أصبح نشيطا بالحركة لأن التمشي لا يحلو إلا بعد العصر لانخفاض الحرارة في هذا الوقت.. بعد قليل وقعت عينيّ على فتاة.. إنها 'ساليس' كانت تحدث فتاة أخرى وتحمل في يدها شيئا اشترته من الدكان وحين ودعتها استدارت لتعود إلى منزلها فوقع بصرها عليّ وأزالت نظرها فورا بشكل عفويّ وكأنها لا تعرفني.. لا ألومها.. لماذا ستدعي أنها تعرفني وهي ستتزوج ابن عمها قريبا.. لم أعد أشعر بأيّ فرق بينها وبين فتاة أخرى، الفرق الوحيد هو احتلالها عقلي دون الكثير من البنات..
شاءت الأقدار أن ألتقيها حين ذهبتُ إلى السوق الأسبوعي المتواضع يوم الخميس.. كنت قد اشتريت بعض الأشياء التي سآخذها حين أعود إلى مدينتي، التقيتُ بها صدفة تحمل سلة مليئة بالخضر وبقبضتين من المقدونس متدليتين على جانب السلة وكانت عائدة إلى المنزل، فتعمدت محاصرتها بوقوفي أمامها فقالت متجنبة النظر إليّ:
« أفسح لي الطريق ودعني أمر..»
تجاهلتُ طلبها وقلت:
«لقد سئمت من كلامكِ الغريب والمتناقض والناقص.. هلا أسمع منك توضيحا كاملا بدل توضيح نقطة بنقطة على حدة..»
أجابت بعبوس:
«وهل تركت لي فرصة أو مجال وأنت تصرخ دون انتباه في وجهي عبر الهاتف..؟ أضف إلى ذلك.. كيف تريد توضيحا ألست أنت من قال لم يعد أمري يهمك..!»
تنهدت وأردت أن أستعيد هدوئي وأنا أقول:
«حسنا أنا آسف وأعتذر بسبب كلامي.. أما الفرصة فقد كانت دائما متاحة لتخبريني ولم تفعلي.. على كل حال.. وقع ما وقع فدعينا ننسى الأمر..»
كان المكان مليء بالناس ورغم غضبها مني فقد سمحت لي بأن أحمل عنها السلة حين بادرت بذلك، فقلت مقترحا:
« دعينا نبتعد عن هذا المكان المزدحم بالناس فاللصوص تحب الأماكن المكتظة للسرقة.»
عاد إليها الهدوء ووافقتني وسرنا مبتعدين ولم نتحدث عن أيّ شيء إلى أن ابتعدنا من ضجيج الناس وصياح البائعين فأحسست بعدها بالهدوء أيضا.. وقفنا تحت ظل شجرة كانت بعيدة شيئا ما عن الحي الذي تسكن فيه ثم وضعت السلة على الأرض ونفضت يديّ ثم سألتها:
«أنا لن أتدخل في حياتك.. إن كنت راضية بالزواج من ابن عمك..»
قاطع كلامي مزاجها العكر فأبقت عيناها منخفضتين فأحسست بأنها تحاول إخفاء دموعها وتحاول تمالك نفسها وكتمان بكائها:
«ليست لديك فكرة عن حالي.. سامح الله أبي.. لم يعبأ بي يوما ولم يعبأ بمستقبلي، لقد كان في الماضي مدمن قمار من الدرجة الأولى وباع كل ما تركه له جدي من أراض وأنفق كل ما لديه من مال في القمار حتى أصبحنا لا نملك شيئا.. بينما عمي المتوفي كان رجلا ذكيا حين حافظ على أملاكه وعلى أراض زراعية تعود عليه بأرباح طائلة وكان يستثمر أمواله بإنشاء مقهى أسماه باسم ابنه 'بوعزة' الموجود في هذه البلدة..»
'بوعزة'..!؟ قلت في نفسي.. أذلك الرجل الضخم صاحب الشوارب الكثة يكون ابن عمها الذي ينوي أبوها بأن يزوجها له..؟ فتابعت 'ساليس' قائلة:
«لقد وعد 'بوعزة' أبي أن يمنحه بعض أملاكه إضافة إلى صداقي الذي سيعطيني إياه إذا قبل أن يزوجه بي.. أنا مجرد صفقة مربحة لأبي لذلك فرض عليّ ألا أتزوج أحدا غيره لأنه فاحش الثراء وسيغنينا بقية حياتنا ولن نقلق حيال المال في المستقبل أبدا..»
« حسنا.. وهل أنت راضية بذلك..؟»
لم تستطع تمالك نفسها أكثر فانفجرت باكية وصاحت معاتبة:
« هل أنت مجنون..!؟ أأبدو لك سعيدة بذلك..؟»
بسبب بكائها تحملق فينا بعض المارة بقربنا:
« أرجوك اهدئي نحن في مكان عام هذا لن يحل المشكلة..»
بعد لحظات تمالكت نفسها ثم قلت:
«اسمعيني.. إذا كان المال عند أبوك هو شغله الشاغل فسأعرض عليه أنا أيضا ما يرغب به ليقبل بي زوجا لك..»
أعطيتها منديلا ورقيا لتمسح دموعها، وبينما هي تفعل ذلك، نظرتُ حولي ورأيت رجلا من بعيد ينظر إلينا بشكل ملفت جدا، ففكرت ألا أطيل الوقوف معها فإنها تكون ابنة عم رجل مهم في هذه البلدة، لذلك يحملق فينا ويحملق كل من يمر بنا، سِرنا أنا وإياها دون أن ننطق بأية كلمة ولم يدر بيننا أيّ حديث، فقد تجمدت الكلمات بصقيع شبح الفراق الذي يحوم حولنا.. لكن.. مع ذلك، خطاب أبلغ وأقوى من أيّ كلام كان داخل كلينا ولا أيّا كان يقوى على فصله.. أسمعها بوضوح مثلما تسمعني بوضوح.. اقتربنا من الحي الذي تسكن فيه، فقالت شاكرة:
« سأحمل سلتي من هنا لأعود إلى المنزل.»
رغم ذلك الأمل الذي وعدت به، شعرت بأني سأفقدها رغم كل شيء، لا أعرف سبب هذا الإحساس المشؤوم الذي أرسل غيمة سوداء إلى سماء أحلامنا الوردية.. هذه الفتاة إن لم تكن من نصيبي يوما فذلك لن يغير مكانها في قلبي وإن طال بي عمري.. رفعتُ يدي لأزيل بعض الخصلات المنسدلة على جبينها وقلت بصوت قريب إلى الهمس:
«حسنا.. اذهبي يا 'فاطمة' واهتمي بنفسك جيدا وإذا احتجت لأيّ شيء لا تترددي فيسعدني أن أكون في خدمتك دائما.»
ناولتها السلة ثم ودعتني بعينيها وبادلتها نظرات تركتها تقرأ الحزن فيهما وقد جعلها ذلك تستدير ذاهبة قبل أن تنفجر باكية.. رغبتُ بالإمساك بها وأمنعها من الابتعاد.. لكن.. تحجرت أصابع قبضتي وعجزت واكتفيت بمراقبتها منهزما وهي تبتعد آخذة روحي معها..
حين غابت تحركتُ لأذهب أيضا.. لكن دون أن أتوقع.. رأيت شخصا.. شخصا لم أحسب له أيّ حساب.. لقد كان يراقبنا من بُعد أكثر من خمسة عشرة مترا تقريبا.. إنه.. ' بوعزة'.. مثل عفريت مارد لقد عاد بسرعة من القرية.. ألم تقل 'ساليس' هو لا يزال هناك..! أم شخص أبلغه بشيء عبر الهاتف فجاء بسرعة البرق.. هذا احتمال وارد بسبب ملاحظتي لعدد لا بأس به من الأشخاص الذين يراقبونني حين كنت برفقتها.. رغم بعده فأنا أعلم أنه ينظر إليّ بعينين مستعرتين وغاضبتين، لقد رأى وقوفي مع 'ساليس' ابنة عمه ـ وهذا شيء غير متوقع فعلا ـ لاحظ الود الذي بيننا.. أكيد هو لا يبارك لنا ذلك.. لكنه لم يحرك ساكنا.. اكتفى بالنظر إليّ فقط، فأزحت نظري عنه.. ربما لم يصدر منه أيّ رد فعل لأنه لا يريد لمْ الناس حوله إذا جاء إليّ راغبا في النزاع أو في أيّ مشادة كلامية مثيرة لمحبي المصائب.. لقد رشح نفسه للانتخابات ولا يريد تلطيخ سيرته ونشر الإشاعات حوله فيصبح اسمه على كل لسان ويخسر الأصوات..
قمت بجولة قصيرة قبل أن أسير عائدا إلى النزل وأنال قسطا من الراحة.. إن النزل الذي أقيم فيه هو على بعد خطوات فقط من مقهى 'بوعزة'، لذلك سرت في طريق آخر حتى لا أصادفه لكوني في مزاج لا يتيح لي قبول أية مناقشة.. لكن.. كما نقول نحن الأمازيغ: 'أذكر النمر.. تراك ممسك بذيله'، لقد وجدت 'بوعزة' فجأة واقفا أمامي مباشرة بهيئته الهمجية.. استقرت خطواتي أمامه.. لقد كان باردا وهادئا:
« تعال معي إلى المقهى ولا تجعلني أكرر كلامي.»
لا يدعوني لتناول العشاء طبعا وأعرف ماذا سيقول، لقد أمرني باستعلاء وأنا لا أحب هذا الأسلوب للمخاطبة.. لكني مبدئيا سأحافظ على أعصابي.. جلسنا على كرسيين موجودين حول طاولة عند مدخل المقهى.. فمال نحوي ثم قال بصوت قريب إلى الهمس:
«تلك ستكون آخر مرة أراك فيها مع ابنة عمي، ولقد اكتشفت من قليل أنك لا تلتقي بها من ورائي وحسب، بل وتتصل بها عبر الانترنت وعبر الهاتف.. وسأخبرك بأنها خطيبتي وستكون زوجتي عما قريب ولن أحاسبك على شيء الآن.. لكن.. إن حاولت اتخاذ طريقا إليها بعد هذا الذي قلته لك واستهنت بي وبكلامي فلن تجدني ودودا بالمرة.. ولا تحسبني أخاف من فضيحة ما، اليوم هو الآخِر في جمع الأصوات الانتخابية وهناك احتمال كبير لفوزي بلقب عمدة هذه البلدة، لذلك لن أتردد في تهشيم وجهك والزج بك في السجن إن فكرت فقط في رؤيتها مرة أخرى.. لذا احذر,,»
لم يسبق أن تلقيت تهديدا.. خاصة بالسجن.. كم هو مضحك..! أنهى حديثه بالنظر في عينيَّ بنظرات جادة وثاقبة وكنت جادا بدوري وتعمدت أيضا تثبيت عينيّ في عينيه بجدية تامة مع أني كنت ساخرا في نفسي وفكرت: لم يَعُد مُرَحَباً بي في هذه البلدة ولا يسعده أبدا وعده باصطحابي لزيارة مغارة 'إمي ن إفري'.. لم أتوقف عن التحديق فيه ولا أنوي فعل ذلك إلى أن يختار هو أولا إزاحة عينيه الثاقبتين عن عينيّ، ففعل ذلك واستقام واقفا ثم انصرف دون أن يزيد كلمة أخرى..
هكذا كان الحديث الذي دار بيننا.. انصرفت أيضا.. يظن أنه قد ترك في نفسي شيء من الجزع والخضوع والإذعان لأمره.. لكن الحقيقة لم تتغير ولا أنوي التخلي عن هذه الفتاة، لو كان يعرف ذلك لعجل في تنفيذ ما هددني به للتو.. فليفعل ما يحلو له..
في اليوم التالي تم الإعلان عن المترشح الذي نال الأصوات.. إنه بالطبع 'بوعزة'.. لقد أصبح عمدة هذه البلدة وصارتْ له السلطة..
مرت ثلاثة أيام.. التقيت والد 'ساليس' في البلدة وحين حاولت التكلم معه رفض الحديث معي وأضاف تهديدا مثلما فعل ابن أخيه المجنون 'بوعزة'.. واكتشفت بعدها أن ليس بيدي حيلة، لقد جربت كل الوسائل لتكون ابنته لي لكن وسائلي باءت بالفشل كما توقعت.. لقد فاز العمدة وإني آسِفٌ حقا لذلك..
لقد اشتقت إليها، فمنذ ذلك اليوم حين رأيتها عند السوق الأسبوعي لم أرها بعد ذلك فازداد شوقي إليها، لم أحاول الاتصال بها، ليس لخوفي على نفسي بل لخوفي عليها.. فشعرت بأني أحتاجها أكثر من أي وقت مضى.. بدأتُ أشعر بأعراض الإفتقاد إليها.. إنها أعراض مميتة وأسوأ من افتقاد النيكوتين.. هي بالنسبة لي الطاقة التي تمنحني القوة وتمنحني الرغبة والاستمرار في هذه الحياة التي أصبحت سرابا من دونها والعالم أصبح فارغا.. ليثني أستطيع رؤيتها ولو رؤية خاطفة.. يبدو أني فقدتها إلى الأبد، نظرت بأسف إلى القمر في كبد السماء مضيءً حوله لطخات ضبابية خفيفة كلوحة فنية ويضيء هذه البلدة الكئيبة والمظلمة في عينيّ.. لا أرغب بالنوم.. كنت أقرأ كتابا فانقطع النور فجأة كما يحدث دائما هنا بسبب الإمكانيات المحدودة لهذه البلدة وهذا النزل بالخصوص فاستعنت بالشمعة للحظات فقط ثم أطفأتها بسحق شعلتها بأصبعيّ واكتفيت بالجلوس في الظلمة على الأريكة بجانب النافذة وأنظر إلى القمر أخاطبه في نفسي.. كيف يغمض لي جفن وفتاتي بعيدة عني ولا أعرف عنها شيئا ولا أستطيع رؤيتها بعد اليوم..؟ لقد توقف الزمن والمنظر حولي أراه شفافا وذابلا بلا معنى.. لقد سُرقتْ مني سعادتي كما يخطف الطائر الجارح ضحية كانت تنعم بحياة بريئة وفجأة في لحظة سهو قاتلة غُرست مخالب حادة في جسدها متشبثة بها بحيث لا تترك أيّ مجال لنجاتها ثم يضرب الطائر بجناحيه محلقا بعيدا في رحلة بلا عودة إلى الموت..
بعد قليل رأيت من مسافة غير بعيدة تحت ضوء القمر، أنثى الخنزير البريّ يتبعها ثلاثة من صغارها يبحثون عن طعام في النفايات التي يركمها الناس في صندوق كبير وممتلئ، تسربت القمامة على جوانبه بهزة خفيفة من الخنزيرة.. كنت أتساءل دوما من يقلب هذا الصندوق بتلك الطريقة وظننت أن مدمني الكحول هم من يفعل ذلك وهم يتسكعون.. هذه البلدة لا تلقى أية عناية من المسؤولين، فقد مضت ثلاثة أيام ولم أرى جامعي الأزبال، لقد انتهت مدة الانتخابات وعادت البلدة إلى التهميش والإضرابات..
انتهت إجازتي.. هذا آخر يوم لي هنا، غذا سأعود لـ'أكادير'.. إلى دياري، لذلك قمت بجمع أمتعتي وملأت خزان سيارتي بالوقود.. لا أشعر بأني بخير.. أشعر بأني على وشك ترك شيء يخصني وهو جزء مني.. وليس أيُّ جزء.. هو أهم قطعة فيّ وعليه يعتمد جسمي ليبقى حيا.. لقد انتهى كل ما كان بيني وبينها وإلى الأبد، أصبح كل شيء نسيّا منسيّا تماما كالعمر عندما ينتهي ولا يعود..
ذهبت للتمشي بعد عصر هذا اليوم.. هذه آخر جولة لي.. تعمدت السير قرب الحي الذي تقيم فيه فتاتي، اشتريت جريدة ووقفت عند المتجر نفسه حيث تتردد 'ساليس' كثيرا.. كنت أطالع الجريدة وكانت تغطي وجهي حين جاءت 'ساليس' إلى المتجر، لم أعرف أنها هي حتى سمعت صوتها، فأزلت الجريدة أمام وجهي بسرعة وحين رأتني أسرعتْ بأخذ ما طلبته لتعجل بالانصراف ولحقت بها وأمسكتُ بها وأدرتها إليَّ فقالت برجاء وهي تحاول تخليص يديها من قبضتاي:
« أرجوك دعني يا 'مروان'.. أنت تعرف ماذا سيصيبك إذا رآنا ابن عمي معا.»
«وما أدراك بأني أهتم لما سيصيبني..؟ كما أني لست خائفا منه.. أنت أهم عندي.. لا يمكنني التخلي عنك هكذا بكل بساطة..»
صاحت في جزع:
«أنت مجنون..!»
فجأة صاح ذلك الرجل 'بوعزة' مثل العفريت مناديا عليها، فانتفضتْ لصوته فزعا وحين رأته أسرعتْ بالاختباء خلفي.. راح الناس يحومون حولنا مهمهمين بكلمات الهلاك بأنه سيقضي عليَّ، فقال صائحا في غضب شديد ليُسمع كل من حوله وكأنه على خشبة المسرح:
« ألم تفهم ما قلته سابقا بخصوص هذا أيها السوسي الحقير..؟»
« انتبه..! لا تنعتني بالحقير.»
تقدم نحوي أكثر وبدا كالكلب المسعور وعيناه تكادان تحرقان أيّ شيء يقع عليه بصره من شدة الغضب، ودون أن يزيح عينيه عني صاح في 'ساليس' التي تختبئ خلفي:
« عودي إلى المنزل أيتها الخرقاء وحسابي معك بعد حين.»
أبت الحراك من مكانها خلفي حتى أمرتها بهمس ووعدتها بأن الأمور ستكون على ما يرام.. فالعدو اللدود دائما حسود وعليه وحده في النهاية تلتف القيود وإن كان ذو سلطة أو نفوذ.. تماما كالضفدع كما يقال.. إن وضعته على كرسي وإن كان من ذهب.. عاجلا سيقفز إلى المستنقع..
تساقطت الدموع من عينيها وهي تعود جارية إلى المنزل فعاد 'بوعزة' إلى خطابه معي:
«ألم يحن الوقت بعد، أيها المتطفل، لتعود إلى ديارك وإلى مدينتك الملعونة والبائسة..؟ أغرب عنا وابتعد عنها ودعنا نعيش بسلام، ألن تفهم ذلك إلا بالقوة..؟»
«إن أردت أن أبتعد عنها وأن لا أراها مجددا.. فليس لك إلا خيار واحد وهو أن تمنعني بنفسك.. لأني لا أنوي فراقها أبدا فافعل ما شئت..»
أعرف.. أنا أبدو كجاهل يلعب بالنار.. نعم.. لكني أعني تماما ما أقوله وسأكون على قدر كلماتي وإن كنت أعرف أن لا وجود لأيّ تكافئ بيني وبينه لأن هيأته تصلح للقتال وكأنه آتٍ من حلبة المصارعة الحرة.. بينما أنا أملك جسدا لا يصلح إلا لملأ صفحات المجلات الإشهارية بآخر الصيحات في عالم الموضة لأزياء رجالية فاخرة.. لقد لاحظتُ انقباض عضلة ذراعه اليمنى حين جمع أصابع يده بقوة فوجه سبابته إليّ فصاح:
«حسنا أيها السوسي المخبول، أتحسب نفسك قادر عليّ..! هذا لا يدل إلا على جهلك وقلة معرفتك بي.. أنت بالنسبة لي كالعبث مع النمل ويمكنني التخلص منك بسهولة تماما كرماد السجائر.. لكن لا بأس سآخذك على قدر عقلك وقدرتك الإدراكية المتواضعة.. أنت من جلب ذلك لنفسك ووضعت نفسك في موقف يثير شفقتي.. أنا أحذرك لآخر مرة وأنا جاد.. أقسم لك أمام هؤلاء الناس بأني سأهشم وجهك وأقتلع عينيك وأبعثر شملك وأجعلك عبرة لمن يعتبر إن رأيتك معها مرة أخرى أو سعيت فقط إلى ذلك..»
كان أنفه منتفخا مثل أنف الثور الهائج الذي يستعد لنطح عدوه بقرونه القاتلة.. كيف أمكنه فرض نفسه عليها وهي لا تريده.. أنهى خطابه بنظرة كبرياء وتحقير ثم سار مخترقا الحشد المحيط حولنا في تطاولٍ عائدا إلى منزله.. إن أصاب فتاتي بأيّ مكروه فأنا قادر على قتله، صحيح أني لست قويا مثله لكني لست أيضا جبانا.. الرجولة لا تقاس أبدا لا بالقوة الجسدية ولا بالسلطة أو الكبرياء والتطاول.. أملك النفس التي تجعلني رجلا حقيقيا ولن أسمح له بتهديدي مرة أخرى.. راح الناس ينظرون إليَّ، لقد أصبحت مشهورا خلال دقائق ووجهي الذي كان دائما غريبا أصبح الآن معروفا.. بدأوا بالإنتشار ليذهب كلٌّ إلى مقصده فقد انتهى العرض.