القرآن هو البصائر التي تُري الإنسان ما يحتاجه في كل زمان، وأول البصائر التي يحتاجها أن يعرف قيمة القرآن؛ ليستبين له حجم العظمة القرآنية التي تكسو بصائره، ومن هذه البصائر القرآنية المعرفة بقيمة القرآن الكريم:
البصيرة الأولى: القرآن برنامج حياة الإنسان:
القرآن العظيم هو الرسالة التي أنزلها الله لسعادة العالمينش، وهو برنامج قيادة الإنسانية نحو الهدى والحق والخير وإرشاد الحائرين، وإنقاذ البشرية من الشقاء والظلم والعبث الفردي والدولي الذي ملأ مجتمعاتها بالضيق والشقاء والكدر والعذاب الأليم {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]، وبينما يريد الله تعالى بالإنسانية اليسر في حياتهم ومعاشهم وعلاقاتهم، يصر الذين يتبعون الشهوات، ويبغون الحياة عوجاً على إغراق المجتمعات في الظلمات، وإبعادها عن برنامج حياتها الذي أنزله الله لا عوج فيه صراطاً قويماً {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27].
البصيرة الثانية: القرآن هو الحبل المدود لمن رام الرُّقيَ والسعود والتقدم والصعود:
القرآن هو حبل الله الممدود؛ لإغاثة الإنسان المتعب الجريح المكدود، ليعصمه من الضلال الفكري والهلاك المعيشي والاقتصادي والحياتي، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن هذا القرآن سببٌ طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً)، ولذا قال ابن القيم: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين، أنزله لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصراً، ونسعد به تذكراً، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه، ونُصَدِّق به، ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه".
البصيرة الثالثة: القرآن أصل نظام العالم ونُظُمه، وهو العاصم من الضلال والهلاك:
وهنا تنبع قيمة البصائر القرآنية المحددة للأوليات والأولويات: فالبصائر القرآنية هي أصل التصورات والرؤية الرشيدة، وأساس المناهج الفكرية العملية المؤسسة للحياة السعيدة، وأساس الحضارات والبناءات المجيدة؛ لأنها البيان الدستوري الأعظم.. يجد فيها المفكرون والمثقفون والناس أجمعون ما يعصمهم من التيه والفتن والضلالات الفكرية والعقلية والحياتية، ويتمتع البشر أجمعون بواسطتها بألذ متاعٍ ونعيم {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء:176].
إنها البصائر القرآنية التي تغيث الأمم والشعوب، وتنقذهم من آفات الجوع والمرض والبؤس والحروب وما ينصبه الفساد المحلي والعالمي من فخاخٍ وشراك، وتبعدهم عن الشقاء والآلام والهلاك، وتجعلهم في عالمٍ من الأُنس والراحة يرتعون، كما قال جل في علاه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43].
فالقرآن الكريم هو الـمرجع الأكبر في الآراء والأفكار والنظم والسياسيات، والأساس في الصحيح من الأبحاث والدراسات فـــ"هو الصراط المستقيم الذي لاتميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء"؛ ولذا ينبغي بيان هذه البصائر للناس أجمعين، فهي ليست خاصةً بالمؤمنين، بل يجب أن تحمل رسالتها لتصل إلى العالمين، مع استحضار أن الذي سيستفيد منها لتكون له هدى ورحمة هم المؤمنون الموقنون لا الشاكَّون المترددون {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20]، وهل يمكن أن توجد هذه البصائر والأنوار إلا في الكتاب المبارك الخاتم المهيمن المختار؟
البصيرة الرابعة: القرآن هو المهيمن:
القرآن المجيد هو المقياس الحقيقي لصدق الأقوال والأعمال، وهو ميزان الصحة للأفكار والمشاريع الفردية والجماعية، وهو المعيار المهيمن على الكتب السماوية والتشريعات الأرضية الوضعية، فهو الدالُّ على مدى الثقة بمناهج البشر وتجاربهم الإنسانية، وهيمنتُه العظيمة الدقيقة لا يستطيعها الكُتَّاب، ولا المجامع العلمية الرفيعة الأبواب {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فهو الشاهد للبشرية إن جعلته قائداً لها لتسلك به صراطاً سوياً، وهو الشاهد عليها إن نبذت تعاليمه ونظمه وراءها ظهرياً، كما ذكر جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (القرآن شافع مشفع وماحل مُصَدَّق. من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار).
البصيرة الخامسة: القرآن يهب المجد لبني الإنسان:
فيأخذ البشر الموفقون:
- من مجده مجدهم {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } [ق:1]، { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21].
- ومن عزه عزَّهم {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41].
- ومن هداه هداهم ليظفروا بالفلاح، وبينما المحاربون له هم الخاسرون إذا المتبعون له هم الفائزون: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5].
- ومن أنواره أنوارهم وفلاحهم المتضمن الانتصار الفردي والجماعي في المجالات المتعددة {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
- ومن بركته وخيره المتطاول الكثير خيرهم وخيراتهم {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155].
- ومن فرقانه فرقانهم، حيث يفرقون بين الحق والباطل، ويعطيهم القدرة على اتباع الصواب في القرارات، والحزم في المبادرات؛ ليكون تأثيرهم على المستويات الدولية لائقاً واضحاً كبيراً {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].
إنه القرآن المجيد: هو الذكر والشرف والنور والبصائر، حيث تحيا به الأجساد، وتمتلئ بالإشراق الضمائر، وبه يجد الناس الشرف والمكانة عند الأفراد والنظم والدول والجماعات، كما قال راحم الأرض والسموات {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]، {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، يا لجمال هذه الكلمة (ذكركم) فإنها تتضمن معنيين صحيحين:
الأول: التذكير، أي: ما يذكركم بالحقائق التي تحتاجونها، حتى لا تغفلوا عنها.
الثاني: رفعة الشأن والقدر والمكانة والشرف التقدير، أي فيه شرفكم وعزكم وفخركم ونوركم وسناءكم ورفعة مكانتكم بين أصدقائكم وأعدائكم، وفي المجتمع المحلي والدولي، ولذا روى مسلم أن نافع بن عبد الحارِث لقى عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكةَ، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قَال: مولى من موالينا. قَال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قَال: إنه قَارِئ لكتاب اللَّه عز وجل، وإنه عالم بالفرائض. قَال عمر: أما إن نبِيكم صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: (إن اللَّه يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين) رواه مسلم.