حرصت الدولة العثمانية على جانب التعليم كحرصها على الجانب السياسي والعسكري لما له من أثر بالغ في بناء جيل واعي قادر على التطور والنهضة ،لذا لم تكن بعيدة عن التأثير الحضاري الإسلامي ومؤسساته العلمية والإجتماعية وحركته الفكرية.
عقب فتح اسطنبول عام 1453م حرص السلطان محمد الفاتح على جعل هذه المدينة الإستراتيجية تأخذ مكانها الائق بين المراكز الثقافية الهامة في العالم الإسلامي، وهكذا راحت حركة النشاط العلمي والثقافي تعلن عن نفسها خلال عهد الفاتح بعد أن عاد الباحثون والعلماء يقصدون عاصمة الإسلام حينها اسلامبول ليتخذوا منهم مركزاً لهم، وعلى أثر ضم دولة المماليك في الشام ومصر والعراق بما فيها مركز الخلافة الأموية والخلافة الفاطمية والخلافة العباسية أصبحت اسطنبول منارة الحضارة الإسلامية ومركز إشعاعها، وصارت ملاذ كل ملهوف وملجأ كل مظلوم ومأوى كل طالب علم وحكم ومال.
اهتم العثمانيون منذ البداية بالمؤسسات العلمية فمنذ وضع حجر اساس الدولة في بداياتها أمر أورخان غازي بإقامة مدرسة بجانب الجامع الكبير في ازنيق عام 1331م وفيما بعد أُسست مدرسة أخرى في بورصة عام 1335م، وخلال عهود مراد الأول ومحمد الجلبي ومراد الثاني شهدت الحركة العلمية في الدولة إزدهاراً تدريجياً حيث راح كل سلطان يقيم مؤسسات علمية في شتى بقاع الدولة العثمانية حيث كانت هذه المؤسسات عاملاً مهماً لإنتشار الثقافة الإسلامية في مناطق الروميلي خلال فترة قصيرة، وفي عهد السلطان محمد الفاتح أسس مدارس (صحن الثمان) في إسطنبول وسميت بهذا الإسم نسبتاً لعددها حيث كانت ثمان مدارس أُقيمت بجانب جامع الفاتح وقد قسمت هذه المدارس إلى مدارس عالية ومتوسطة وإبتدائية وكان يُدرس فيها شتى أنواع العلوم والشريعة، وإن المدة التي كان يدرس فيها الطالب لم تكن محسومة بل كانت مرتبطة بالفترة الزمنية التي ينهي فيها الطالب دراسة الكتب التي يتعلمها فإن لم يرى المعلم أن الطالب قد أتقن ما تعلمه لم يكن ينتقل إلى كتاب آخر ،ويعود هذا الإهتمام البالغ في التعليم لدى الفاتح منذ صغره حيث تربى ونشأ على حبه وشغفه بالعلم، وتربى على يد كبار العلماء وتأثر بهم كالشيخ (آق شمس الدين)، فهو كما قال عنه المؤرخ علي الآقسكي: "عالماً وجامعاً في نفسه كل ما يجب توافره فيمن يتولى الحكم من الأوصاف والمزايا...، وكان الفاتح عالماً كبيراً في العلوم الشرعية ومحباً لسائر العلوم والفنون"، وإن هذه الصورة لتتضح في وصيته لابنه وهو على فراش الموت؛ فقد جاء فيها: "... وبما أن العلماء هم بمنزلة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظِّم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحدٍ منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك، وأكرمه بالمال".
في عهد السلطان سليمان القانوني وعلى أثر شعور الدولة بضرورة التطور في العلوم الرياضية والطبية أقام السلطان أربع مدارس لعلوم الرياضيات ومدرسة للطب ومدرسة دار الحديث، وفي عام 1557م تم إنشاء كلية السليمانية بإشراف المعمار سنان، و حسب ما روى المؤرخ (باجوي) عمل في بناء الكلية 3523 عامل وتم صرف مبالغ كبيرة عليها وتم نقل مختلف أنواع الأحجار والأعمدة إليها من جزيرة بوزجه وازميت وغزة ولبنان وغيرها من المدن، وقُسّمت الكلية إلى 15 قسم من بين أقسامها الجامع ومدرسة الطب ومشفى الأمراض العقلية ومدرسة الحديث والمطبعة ودار الضيافة وضريح المعمار سنان.
وفي عام 1901م أمر السلطان عبد الحميد الثاني بتأسيس أول مدرسة طبية في دمشق، وتم تأسيس مدرسة الحقوق في بيروت عام 1913م التي نُقِلت إلى دمشق بعد اندلاع الحرب العالمية.
يجدر بالذكر أن المدارس الرسمية في فلسطين حتى نهاية العهد العثماني كانت لجميع الطوائف حيث بلغ عددها (776) مدرسة منها: 413 مدرسة عربية إسلامية، و250 مدرسة مسيحية، و113مدرسة يهودية، وهذه الإحصائيات تشير بوضوح إلى أن الدولة العثمانية سمحت لجميع الطوائف بممارسة حقها في التعليم لا كما يشاع عنها.
كان الهدف الأساسي من تأسيس مثل هذه المؤسسات العلمية هو إنشاء جيل واعي مفكر قادر على قيادة المجتمع والمضي به إلى الأفضل، فهدفت إلى توفير فئة من الإداريين وفئة أخرى من المدرسين الذين يمكنهم متابعة العملية التعليمية مستقبلاً وإعداد القضاة والحكام في الولايات المختلفة للإمبراطورية العثمانية ،وقد أدت هذه المدارس مهمتها خلال تلك المرحلة.