أُريدُ أنْ أتوبَ.. ولكن؟!
دعتني نفسي في ظلام الليل الدامس لأن أُحلّك بعينيَّ وأجولَ بخاطري في ظلماتٍ بعضها فوق بعض،
أهابُ تلك الظلماتِ، لكنْ في الوقتِ ذاته لا أمتلكُ الشجاعة لأنهضَ فأُنير حولي..؟!
تباينٌ وشتاتٌ في سريرةِ كلٍ منّا حين يدعوه قلبه للتوبة إلى الله!!
فتارةً يرقُّ القلب ويَتُوق للخضوع والتذلل بين يدي خالقه نادماً على لحظاتٍ خارت فيها قواه وتغلبتْ عليه شهواه منكراً معصيته للذي لا يغفل ولا ينام... ولكن؟!
لا يلبثْ مليًّا إلّا وتصارعه تلك النفس الأمَّارة بالسوء بذاك الماضي الخبيث فيَعدِلُ عن توبته مُتباكياً على حاله..
«ويحك يا فتى، فقد اقترفت جميع الذنوب ولهثت وراء شهواتك، أنتَ ذاك الذي تراكمت خطاياه كالصدأ فأطفأت نور فؤاده، فكيف بمثلك أن يتجرأَ ويناجي الله ليتوب عليه؟!
يا غارقًا في بحار الملذّاتِ وتائهًا في صحارى الغفلات
أيغفر الله لك؟!
بل.. وبل.. وبل... إلخ».
ذاك الحوار القاسي ربّما يتواتر في سريرتنا أوقاتًا لا تُعد ولا تُحصى لكنك إن أمعنت النظر تجد ومضاتٍ عديدة تُنير لك تلك الظلمة التي يصطنعها لك ذاك اللعين إبليس..
أولها..
استرخِ قليلاً وأطلق قيود الغيام وتدبر مَعي: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ".
الله تعالى يُطمئنك ويداوي جرحك ويأخذ بيدك أيها الغريق؛ قائلا إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً مهما عظُمت ولو كانت مثلُ زبد البحر لأنّ رحمته وسعت كلّ شيء ومهما كثرتْ ذنوبك فهي شيء!
فعليك أن لا تقنط ولا تيأس؛ وأخلص النية فوراً بالإقلاع عن الذنب واندم على ما قد فات فالندم توبة واعزم أن لا تعود..
وإياك.. أن تَرْكن إلى توبتك وتأمن مكر الله، بل امضِ مستغفراً طيلة عمرك، وأجهش بالبكاء كلما تذكرت خطاياك، فربما يكون هذا الاكتئاب سبباً لدخولك الجنة، فعن الحسن البصري "إنّ المؤمن ليذنب الذنب فما يزال به كئيباً حتى يدخل الجنة".
ثانيها..
أَنبت فيك بذور الرجاء من الله بأن يغفر لك ما قد سلف وألِحّ على الله في الدعاءِ فالله يفتح لك باب التوبة ويدعوك فهلّا استشعرت ذلك..
"وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا".
وفي الحديث القدسي، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: ((سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَة)). [رواه الترمذي].
فاحذر أن يضعف هذا الجانب القلبي "الرجاء" عندك أو يطرأ لذهنك هل يغفر الله ذنبك؟! فالله تعالى يفرح بتوبتك كالضال الواجد وكالعقيم الوالد!
فالنصارى قالوا في المتفرِّدُ بالوحدانية "ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ" فقال الله عزّ وجلّ: "أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ".
فلمَ التقهقرُ إذاً؟!
ثالثها..
ثَبِّت جذور يقينك بأنّ التوبة تجبّ ما قبلها حتى لا ينتابك الفتور بين الفينة والفينة كلما مرّت صفحات ماضيك أمامك.. فالتوبة تهدم ما كان قبلها، والإسلام يهدم ما كان قبله.
وتدبر معي قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}.
فرمِّم جوانب الجهل فيك، وشيّد معنى الإدراك والمعرفة بالله عزّ وجلّ وبالحلال والحرام فإن عَلمِتَ قلّما تصطادُك شباك المعاصي أخرى!
وحينئذ تتجلّى فيك علامات التوبة الصادقة بأن تكون خيراً من سابقه تاركاً أخلّاء السوء وبيئة الضلال وإن هددوك بماضيك فالله وليّك فلا خوف إذاً!
ذاك غيضٌ من فيضٌ أبغي به وجه الله ثم أن أَقرع باب الشجاعة فينا حتى نصل لذاك النور الذي تُضاء به ظلماتٌ أزهقت أرواحنا..