صراع الأرواح
المس والسحر وسيطرة الجن
سمعنا كثيرًا عن ما يسمَّى بـ"طاقة الأرواح"، وأن الإنسان عبارة عن مادة وروح، وأننا لا نعرف كُنهَ هذه الروح ولا طريقةَ تفاعلها مع المادة؛ لكننا نؤمن بأنها من آيات الله العظيمة، وهي الطاقة الخفيَّة التي تجعل من مادة الجسد إنسانًا متكاملاً يَمشي ويتكلم ويفكِّر.
وما دُمنا نؤمن بوجود هذه الروح ولا نَعرف طبيعة عمَلها؛ فليس علينا أن نُنكِر ما يدخل في نِطاقها مثل الأحلام والحسد والمس والسحر.
كثيرًا ما نسمع عن حكايات أن الجن تلبَّس بفلان أو فلانة، أو أن أحدًا قد أصابه عَمَلٌ (سحر) عَمِلَه له أحدُ الحاقدين عند ساحر ما، وتدور الخلافاتُ - بين المؤمنين بالعلم التجريبيِّ، والمؤمنين بعالم الأرواح - حول ذلك التأثير؛ فأصحابُ العلم التجريبي ومعهم مجموعة من علماء الدِّين يُنكِرون قدرة الجن على تَلبُّس جسد الإنسان وتسخيره، أو العمل من خلاله، كما ينكرون أن يؤثِّر السحر في المرء؛ مثل قطع الرزق وقطع الإنجاب عن المرأة والرجل... إلخ.
وبين المؤمنين بالتأثير يدورُ خلافٌ حول حقيقة هذا التأثير؛ أهو على الجسد أم على الرُّوح والجسد؟ فالمنكِرون لا يرَون أن الجن قادرٌ على أن يؤثر - وهو الكائن الضعيف - على جسد الإنسان، والمؤمنون يرَون أن التأثير لا يكون على الجسد بل يكون على الروح، وهي بدَورها تقود الجسد حسَب ما يقع عليها من تأثير.
وإذا كنا لا نُنكِر التنويم المغناظيسيَّ والسَّيرَ أثناء النوم، وسيطرةَ إنسانٍ بقدرته العقلية على إنسانٍ آخر، فلماذا ننكر سيطرة الروح بشكلٍ ما على روح أخرى؟!
إن الشخص الممسوس أو المسحور لا يتمُّ السيطرة على جسده؛ بل على روحه، فيكون كما في عالم الأحلام يَرى أرواحًا أخرى، ويتفاعل معها وهو مغيَّب عن الواقع، أو ملبَّس عليه فيه، فيتخيَّل خيالاتٍ جديدةً، وتقوم روحُه بدورها بالسيطرة على جسده بحسب ما يتَراءى لها ويتم توجيهها.
وشواهدُ ذلك كثيرة؛ منها الأفعال التي يَفعلها الإنسان أحيانًا كردَّات فعلٍ لحُلم يراه؛ كأن يَسقط من على السرير، أو أن يَضرب بيده أو قدَمه، أو أن يتكلَّم وهو نائم، أو أن يبذل جهدًا في الحلم فيصحو متعبًا ومجهدًا، وربما يتصبَّب عرقًا، أو أن يضربه أحد في المنام فيُصاب في حُلمه، فيصحو ليَجد مكانَ الإصابة كما في الحلم!
وقد وصف الإمام الرازيُّ والإمام ابن تيمية السحر بأنه "تخييلٌ يَحصل للشخص، يأتي بسببه أفعالاً لا تتَواءم مع الواقع"، أو بتغييبِ العقل عن الإدراك السليم؛ كتأثير الخمرة والتنويم المغناطيسي.
الفرق بين المس والسحر:
والآن إذا كان كلٌّ من المس والسحر يقوم على السيطرة على الروح بشكلٍ ما عن طريق التغييب والتخييل؛ فما الفرق بينهما؟
المسُّ هو أن يكون المسيطر على الشخص واحدًا من الجن، يَفعل به ذلك إمَّا بسبب عداوةٍ له، أو بسبب عشق، أو بسبب رغبة في أذيَّته ليس أكثر؛ فالجنُّ شخصيات كالبشر، فيها الخيِّر وفيها المؤذي، ويقوم هذا الجن بالسيطرة على الإنسان في معظم حياته، أو حسَب ما يتراءى له.
أما السحر فإنه تعتيمٌ أو تخييل يقوم به جنٌّ (خادم السحر) أو أكثرُ؛ لتعمية الشخص عن جانبٍ واحد من جوانب الحياة؛ فتجده مثلاً عندما يذهب للعمل يكتئب ويَجد صدودًا عن المكان وعن العمل... إلخ.
وقد ورد في كتب الحديث في الطبرانيِّ وأبي داود وغيره بطرقٍ مختلفة أن النبي الكريم قد أصابه سحرٌ فكان يُخيَّل إليه أنه أتى زوجاته ولم يَأتِهن؛ فبعث الله ملَكَين يُعلِّمان الصحابة ما يَجب فعلُه في ذلك، فقرَأا عليه المعوذتين و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] وبعضَ الأذكار؛ فقام "كأنما نُشِط مِن عِقال"؛ أي: لم يُصِبه شيء.
ولأجل هذا التواصل الخفيِّ بين الجسد والروح؛ كانت الوقاية والعلاج النبوي أيضًا مَزيجًا من الجانب الروحي والمادي:
• قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن تصبَّح كلَّ يوم سَبعَ تمَراتٍ عجوةً لم يضرَّه في ذلك اليوم سمٌّ ولا سحر)).
• وقال صلى الله عليه وسلم: ((اقرَؤوا سورة البقرة؛ فإن أَخْذها بركة، وترْكَها حسرة، ولا تَستطيعها البطَلة (السحَرة))).
• ومن سنن النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينام المرء منفردًا، ما دام يَقدر على أن يكون معه أحدٌ في المسكن أو الغرفة.
ومن سننه كذلك النوم على طهارة:
ونرى في كل ما سبق مجموعةً من الوقاية المادية والروحيَّة؛ لأنه لا يُمكن الفصل بين الروح والجسد، والجن يتكون من مادة ذات نفاذيَّة عالية أخفَّ وأنفذ من مادة الجسم البشري؛ لأنه مخلوق من النار، وإذا كنا لا نُنكِر نفاذية الليزر مثلاً - وهو ضوء بقدرة نفاذية معيَّنة - إلى الجسم البشري؛ فكيف ننكِر نفاذية الجن - إن صحَّ التعبير - إلى عالم الروح؟! ومِن ثَم فإن التحصين يكون في تقوية مجال الطاقة؛ إمَّا بما في التمر والطهارة من قوةٍ وبركة جسدية تُضفي نورانيَّتَها على الروح، أو بالقرآن بما يَحمل من قدرة نورانيَّة تحفظ الروح ومِن ثَم الجسم وتحميهِما.
فعلى كل مسلم أن يتحصَّن بأذكار الصباح والمساء، وفيها سورة الإخلاص والمعوذتين (الفلق والناس)، والنوم على طهارة، وقراءة آية الكرسيِّ أو سورة البقرة، وذلك أفضل.
وعند حدوث مكروهٍ من مسٍّ أو سحر - أعاذنا الله وإياكم - فعلَى المرء أن يَقرأ سورة البقرة، أو تُقرأ عليه مع المعوذتين و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، كما تُقرأ عليه يوميًّا في مكان نومه، بالإضافة لبعض النصائح الأخرى التي يَراها مشايخنا الكرام حسب الحالة.
عافانا الله وعافاكم.