التغيير في القرآن
مفهوم التغيير:
التغيير لغةً: يشير مصطلح التغيير لُغويًّا إلى "إحداث شيء لم يكن قبله، وتغيَّرَ الشيءُ عن حاله: تحوَّل، وغيَّره: حوَّله وبدَّله كأنه جعله غير ما كان، أو انتقال الشيء من حالة إلى حالة أخرى"، فهو يدور على أصلين كما ذُكر: التغيير والتغيُّر:
فالتغيير: آليةٌ شعورية إرادية عن وعي وقصْدٍ، ترمي إلى إحداث تغيير محدَّدٍ، ونتائجه تكون محسوبة بقدر المستطاع، والخللُ في هذا التحول يكون في مساحة ضيقة يسهُل السيطرةُ عليها.
أمَّا التغيُّر فهو: آليةٌ لاشعورية، يتحول الشيءُ فيها من حال إلى حال بشكل مفاجئ وقاطع، وتترتَّب نتائجُه على مدى ما سوف يحالفُه من ظروف محيطةٍ به.
التغيير اصطلاحًا: "تعديل جَذريٌّ في البِنى والهياكل القائمة في المجتمع، وهو غالبًا ما يعني انتقالًا شاملًا - وليس جزئيًّا - في مختلف مناحي الحياة وأنشطتِها، من وضع إلى وضع آخرَ مختلفٍ تمامًا، يشبه ظاهريًّا الثوراتِ، ويتميز بدرجة واسعة من المشاركة السياسية والشعبية وَفْقَ عمليتَي هدم وبناء مترابطتين؛ بإزالة البنى والآليات القديمة، وإحلالِ آليات جديدة على أنقاضها".
فيما يركِّز بعضُ الكُتَّاب الإسلاميين في تعريفهم للتغيير على أساليبه، فيعرِّفه جمعة أمين في مقال له بعنوان: (مفهوم التغيير ومعناه): "بأنه بذلُ الجهد البشري عبر عملية طويلة ومتدرِّجة، يتمُّ خلالها صياغةُ مجتمع متكامل- كِيان أمة - يبدأ بالفرد، ثم الأسرة، ثم المجتمع".
وقد يكون التغيير شاملًا، وقد يكون جزئيًّا:
1- التغيير الشامل العميق: هو التغيير الذي يبدأ بتغيير القيادة السياسية أو السُّلطة الحاكمة، ويمتدُّ فيشمل جميعَ مناحي النُّظُم الأخرى: الاجتماعية والاقتصادية، والتربوية والتشريعية، والدينية والقضائية.
2- التغيير الجزئي: هو التغيير الذي يتناول جزئيةً معينة كالتغيرات التي تتناول الإصلاح الاقتصادي أو الدستوري أو العسكري، حيث ينشأ التغيير الجزئي إمَّا لكون الجوانب الأخرى في المجتمع ليست بحاجةٍ للتغيير، أو لعدم توفُّرِ القدرة أو الرغبة على إحداث تغيرات جذرية في المجتمع.
ولقد جاء مصطلح التغيير في القرآن في أربعة مواضعَ مختلفةٍ في سور مدَنيةِ النزول: أولها: في سورة النساء؛ قال تعالى: ﴿ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 119]، وهو ما يُحدِثه الإنسان من تغيير في خلْقِ الله بسبب غَوَاية إبليس كما أشارت الآية. وقد جاء أيضًا في سورة محمد؛ قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ... ﴾ [محمد: 15] فيما وعد الله به عباده المؤمنين.
فيما جاء في سورة الأنفال؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53] في إشارة إلى تغيير نعمة الله على عباده، إن هم قابلوا نِعَمَه بالكفر والفسوق والعصيان.
فيما جاء في سورة الرعد بمعنى: تغيير ما بأنفس القوم إلى الأفضل والأحسن، وهو المرادُ شرعًا؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
ويُشار هنا إلى أن التغيير في القرآن الكريم جاء على وجهين: تغيير صورةِ الشيء دون ذاته، أو تبديل الشيء بغيره، التي يُعبَّر عنها في الفكر الإسلامي بـ"تبديل العناصر الفاسدة السائدة في المجتمع، ثم يعقُبُها عملية أخرى هي تنمية هذه الجوانب ودعمها".
هذه العملية تُبنى على إيجابية مستمرة لا تقف عند البناء فقط؛ بل وتمنع الهدمَ أيضًا؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]، وهو ما دلَّتْ عليه سورةُ العصر؛ قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3]؛ حيث اعتبرت الآياتُ أن الإيمان حقيقةٌ إيجابية متحركة، كان العمل الصالح - الذي يمثل دائرة التغيير - هو الثمرة الطبيعية لهذا الإيمان؛ فلا يمكن أن يظلَّ الإيمانُ في النفس خامدًا لا يتحرك، وإلَّا كان إيمانًا مُزيَّفًا أو ميتًا، كما أن الوقت الذي يمثل حركة الحياة، إن لم يتحوَّلْ إلى انبثاقٍ للطاقات في عملية مستمرة مرتبطة بديمومة الحياة، فإن الخَسَارة التي عبرت عنها سورة العصر هي النتيجة الطبيعية لهذا الإنسان.
يمكن القول: إن التغيير هو إصلاحُ حالِ القوم بتغييرهم من الحالة السيئة إلى حالة حسنة، وتغيير المنكر إلى معروف؛ ولكنه قد يكون سلبيًّا من الأحسن إلى الأسوأ، وقد يكون إيجابيًّا من الأسوأ إلى الأحسن، والذي نحن بصدده التغييرُ الإيجابي البنَّاءُ، الذي نادى به القرآن، وقام عليه الإسلام، فلقد أخذت فكرةُ (الحق في التغيير] حيِّزَها الكامل في نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة؛ فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]؛ حيث ارتبطت خيريَّةُ هذه الأمة بتحقيق هذه المهمة، التي تتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو في ذاته جوهرُ التغيير البنَّاء الذي حثَّ عليه القرآنُ الكريم.