• دخل عليَّ الطالبُ في مَكتبي بعد محاولات متعدِّدة للوصول إليه وإلى أسرته؛ للتعرُّف على أسباب الغياب المتكرِّر والمتزايد، جلس بكلِّ هدوء وأريحيَّة، وبدأتِ الجلسةُ بتناول الشاي، والسؤال عن حاله وأوضاعِه الصحِّية، وأحوال الأسرة، والجديد في حياته؛ للتعرُّفِ على عقليَّة الطالب، ومستوى التفكير لديه، ومدى تقبُّله للحوار والنِّقاش، وأنهيتُ الجلسة الأولى بأنَّني سعيد برؤيته والحديثِ معه، وألمحتُ له بالرغبة في حضوره وزيارتِه للمكتب في الغد؛ لمساعدته في التعويض عن الفترة التي غابها عن المدرسة، وأعطيتُه رقمَ الهاتف الخاص للاتصال عند حاجته للمساعدة أو رغبتِه في الاستئذان.
• في اليوم التالي أعددتُ له وجبةَ الإفطار، ودعوتُه للحضور مع بداية الفسحة والاستراحة، وبدأ الحوارُ عن رأيه في المَدرسة والمعلِّمين والأصدقاء والدِّراسة بشكلٍ عام.
• عندما أحسستُ أن الطالب يتحدَّث بكلِّ طَلاقة وطُمأنينة، حانتْ فرصةُ السؤال عن أسباب الغياب المتواصل والمتكرِّر، الذي كان له الأثر السَّلبيُّ على مستواه الدراسيِّ، ومعدلِه التراكمي.
• كانت خلاصة الحوار مع الطالب تلمح إلى:
١ - شعوره بغُربة في الصفِّ والمدرسة، وحتى في المنزل والحي.
٢ - ليس هناك مِن أحدٍ يعرف حقيقةَ طموحه ونفسيته.
٣ - أنَّ الآخرين دونه في الاهتمامات.
٤ - تفاهةِ مَن حوله، وسموِّ ما يحمله من فكر.
٥ - يحبُّ القراءة والاطلاعَ، وخاصَّة في القصص التاريخية والبوليسية، والروايات والمغامرات.
٦ – أنه مغرم بشخصيَّة صلاح الدين الأيوبيِّ، وهتلر.
٧ - يجلس لفترات مع الأحلام الخياليَّة، والأفكار النرجسية.
٨ - يميل إلى العزلة والانفراد عن الجميع حتى الوالدين.
٩ - لا يصرِّح بأفكاره؛ لأنَّه لا يفهمها ولا يقدِّر قيمتها إلَّا هو بذاته.
١٠ - يواصِلُ الساعات بالجلوس مع العالم الافتراضي عبرَ وسائل التواصل المختلفة والباهرة.
١١ - يحسُّ بحرقة شديدة وألَمٍ كبير لواقعِ المسلمين وما يمرُّون به مِن مآسٍ ونَكبات.
١٢ - يرى أن عليه دورًا يرغب في القيام به تجاهَ الأمة والواقع؛ ليتخلَّص من تأنيب الضمير.
١٣ - الازدواجية والتناقض الذي يَشعر به بين التنظير والتطبيقِ، والحقيقةِ والواقع.
١٤ - تعرُّضه وأمثاله مِن الشباب لكَمٍّ هائل مِن السخرية والاستهزاء، أو التنقُّص والتهميش.
• قطع جرسُ المدرسة حبلَ أفكار وسلاسة خطاب الطالب، الذي ذهَب لفصله، وتركني حائرًا أمامَ شخصيَّةٍ لا تتجاوز من العمر ثمانية عشر عامًا، وتحمل كلَّ هذه الأفكار والتصورات، وعبء المسؤوليَّة المُلقاة على عاتقي بكيفيَّة التعامل والتصرُّف مع مثلِ هذه الشخصيات.
• استمرَّتِ الجلسات لفترات متفاوتة، ومراقبة دَقيقة لتحرُّكات وتصرُّفات الطالب وتفاعلاته في كافَّة أرجاء المدرسة، وتزويده ببعض القواعد الفكريَّة والأعمال المهارية؛ لإعادته - في البداية - للتفاعل مع البيئة الأسريَّة والمدرسية والمجتمعية.
• كان الطالب بحاجة ماسَّة لإعادة صياغة الرؤية، وتصحيحِ التفكير عن الدِّين والنفس، والكونِ والحياة، والدنيا والآخرة، والأنا والآخر، والتفاعلِ والتعايش، والقضاءِ والقدر، والاستطاعةِ والتكليف، واللذَّةِ والألَم، والأمَّةِ والوطن.
• كما أنَّ على الأسرة والمدرسة والمجتمع الإدراكَ والوعي بالتأثيرات النفسيَّة، والتغيرات السيكولوجيَّة التي تُصاحب وتُلازم الشبابَ من الجنسين في فترة المراهقة والشباب، والتي منها:
١ - الرغبة في التفرُّد والانعزال.
٢ - تغيُّرُ الميول، وتقلُّب المزاج، وعدمُ الاستقرار، والتنقُّل من حالٍ إلى حال، والتوتُّرُ والقلق، والاكتئاب والاضطراب.
٣ - الرَّفضُ والعناد، والمعارضة والعداء، والغيرة والحساسية.
٤ - مقاومة السُّلطة بكافَّة أشكالها وألوانها، بدءًا مِن الوالدين والأسرة، التي قد تصِل به للجنوح والإجرام.
٥ - اضطراب معنى الثِّقة بالنفس، وانحراف مَفهوم تقدير الذَّات بالقيام بأعمالٍ مُخالِفة للشرع والدين، ومعارِضةٍ للعُرف والأخلاق، ومخالفةٍ للنِّظام والقانون.
٦ - أحلام اليقَظة؛ فهي أفضَل وسائل قضاء الوقت لدى المراهِق في سنِّ البلوغ، وعادةً ما تدور أحلامُه حولَ "بطل مَظلوم مَغبون الحق"، والبطَل بالطبع هو المراهِقُ نفسه، وقد يكون الظلم الذي يتخيَّله مِن نوع سوء الفهم أو سوء المعاملة التي يَلقاها مِن الأبوين أو المعلِّمين أو الأصدقاء أو المجتمع، وتكون أحلام اليقظة بهذه الطريقة مصدرًا هامًّا للتعبير عن الانفعالات وإشباع الدَّوافع، وبالطبع كلما ازداد المراهِقُ اندماجًا في هذه الأحلام، يزداد بعدًا عن الواقع، ويزداد تكيُّفه الاجتماعي سُوءًا وانحرافًا.
• الواقعُ المعاصِرُ بما فيه مِن الانفتاح العالَمي، والتوسُّع المعلوماتي - يتطلَّب مِن المؤسسات التربوية، والمحاضن التوجيهيةِ فتحَ قنواتِ الحوار والمناقشة، والتوسُّعَ في منافذ اليقَظة والفطنة، والتوعيةَ بالوسائل النافعة والأساليب الناجعة للتعامل مع متطلبات الدين والنفس، والكونِ والحياة.