أكف القناعة
قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ [البقرة: 249]
يقصُّ علينا تبارك وتعالى قصةَ قومٍ من بني إسرائيل، حين ابتلاهم الله بالحرب مع طالوت؛ وهم في طريق الحرب اختبرهم الله تعالى بنهر طيب ماؤه عذب زلال وهم عِطاش.
فأخبرهم طالوت بوحيٍ مِن الله أنَّ الله جَعَلَ لهم هذا النهر ابتلاءً واختبارًا لهم؛ فمَن شرب منه فقد خَرَج عن طاعته، ولن يسمح له بإكمال المشوار في الحرب، فمَن غَلَبَتْه شهوتُه في الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى!
ومَن لم يطعمه - أي: لم يشرب منه - فهو المؤهَّل لاستمرار طريق الدرب في الجهاد؛ لأنَّ طاعته ظَهَرَت عند ترك الماء، فهو لما سواها أطوع.
وسمح لهم ربُّهم تبارك وتعالى بغرفة اليد، ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال إلى الاغتراف بالأيدي لنظافته وسهولته، وقد قال سيدنا عليٌّ رضي الله عنه: "الأكفُّ أَنْظَف الآنية"؛ تفسير ابن عطية.
وبيَّن سبحانه أنَّ الغرفة باليد كافة لضرر العطش عند الحزَمةِ الصابرينَ على شَظَفِ العيش، الذين هِمَمُهم في غير الرفاهية.
فأمَّا مَن شرب فلم يُروَ؛ بل بَرح به العطش، وأمَّا مَن تَرَكَ الماء فحسنت حالُه، وكان أَجْلَد ممن أَخَذَ الغرفة.
وهذه هي الحال مع شهوات الدنيا المباحة؛ فمَن أَخَذَ منها بالكفاف وبالطريقة التي أَمَرَ الله قنعتْ نفسُه، وسعدتْ رُوحُه، وكان حاله كحال مَن اغتَرَف بيده.
ومَن فَتَحَ لنفسه باب الشهوات على مصراعيه، فلن تهدأ نفسُه، ولن تُروَ، مهما بلغ بها من الشهوات، فيصبح كمَن يروي عطشه بماء البحر، فلن يزداد إلا عطشًا.
وفي هذا يقول سيدنا عمر رضي الله عنه في نصيحة عظيمة: (... والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف؛ فإن لم يكفه الكفاف لَم يُغنه شيء)؛ الطبري، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قد أفلح مَن أسلم، ورُزق كفافًا، وقَنَّعه اللهُ بما آتاه))؛ رواه مسلم.
قال في النهاية: الكفاف هو الذي لا يفضل عن الشيء، ويكون بقَدْر الحاجة إليه.
فلهذا كان مثالُ الغرفة باليد مثالًا يحتذى لكلِّ الشهوات ومطلوبات النفس؛ فمَن أَخَذَ من شهوته بقَدْر غرفة اليد كَفَتْه وآوته، ومَن زاد عن الكفاف فلن يغنيَه شيء، وسيلهث وراء شهواته، وما يزداد بذلك إلا عطشًا وحاجةً في نفسه: ((فَإِنَّ مَا قَلَّ وكَفَى خَيْرٌ ممَّا كثُرَ وأَلْهَى))؛ مسند أحمد.
وتقول العرب أيضًا: العبد حرٌّ إذا قنع، والحرُّ عبد إذا طمع.
وقال سعد بن أبي وقَّاص لابنه عمر: يا بني، إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإن لم تكن لك قناعةٌ فليس يغنيك مالٌ.