اغرس.. ولا تيأس
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلةفإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها).
هذا نور محمدي سطع من مشكاة النبوة، يضيء للناس طريق الأمل في حالك الظُلَم، ويهديهم إلى استغلال فرصة الحياة في آخر لحظاتها؛ لتستثمر فيما ينفع الأحياء وإن لم يدرك الغارس ذلك ثمرة غرسه.
إنه نص كريم أشرق على الحياة ليقول لأهلها: إن الإسلام دين إعمار وبناء، وعمل ونماء، لا يؤمن بالقعود والكسل والفتور والانتظار، إنه دين يضخ دماء الأمل في شرايين الإنسان المشرف على نهاية الحياة، فكيف بمن لازال في عنفوان الحياة، وهو كذلك دين يبث التفاؤل في وجه الإنسان رغم ما يعترض طريقه من أعاصير الآلام الهوجاء، وأصوات اليأس والقنوط التي تصك سمعه في دربه تناديه: أنْ توقَّف!
هنا يحق لنا أن نفخر بديننا كل الفخر، ونسعى أن نكون ممتثلين له في واقع الحياة مهما تدثرت الدنيا بأسمال الكربات والمصائب، ونربأ بنفوسنا أن يكون مفارقو ديننا أحسنَ حالاً منا في التفاؤل والأمل.
لا شك أن واقعنا مرير، ومسيرة حياتنا يجاذبها عن مواصلة رحلة البناء جواذبُ الأزمات المتلاحقة، والشدائد التي لا يزيدها مرور الأيام إلا عقداً إلى عقدها. ولكن هل يعني ذلك أن نستسلم لها، ونقعد عندها، ونترك العمل الجاد لديننا ودنيانا، وننتظر قوارب الأقدار المنقذة لتخلصنا من أمواج عيشنا المضطربة، دون أن نسعى لإنقاذ أنفسنا بما أعطانا الله من القدرات والقوى؟
إن هذا الخيار السمج لا يرضى به المؤمن العاقل وهو يقرأ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينفخ روح الأمل والتفاؤل في نفوس أصحابه رضي الله عنهم وهم جميعًا في أشد الظروف ضراوة وبلاء، حتى يجعل من المحنة منحة، ومن البلاء نافذة متسعة يرى منها أيام النعماء الرخية.
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة - قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
إنها كلمات عظيمة أودعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب خباب رضي الله عنه الذي كان قد عذبه المشركون عذابًا شديداً، ولكنه بناءُ النفوس على الشدائد والمكاره حتى تنتصر عليها، وتستهين في سبيل الحق بآلامها حتى تبلغ آمالها.
وفي يوم الأحزاب الذي وصلت الكريهة فيه إلى هذا التعبير القرآني البديع: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ [الأحزاب:10].
يجتمع الكفار ويسيرون إلى المدينة النبوية كالبحر الهائج، ويحيطون بها، وتشتد برسول الله وأصحابه اللأواء، وتضيق عليهم الأحوال، ولكن مع كل ذلك انظر ماذا حدث: قال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: (بسم الله)، ثم ضرب ضربة، وقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة)، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: (الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن)، ثم ضرب الثالثة، فقال: (بسم الله)، فقطع بقية الحجر، فقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني).
فنزلت هذه الكلمات النبوية المستشرفة للمستقبل المشرق على الصحابة الكرام فملأتها أملاً وتفاؤلاً، ولكنها لما وصلت إلى المنافقين ولم تصادف لديهم قنوات إيمان فإنها زادتهم يأسًا إلى يأسهم، حتى قال بعضهم: (كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!!).
إن هذا التفاؤل العظيم لدى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد سرى إلى نفوس أصحابه، فصاروا يعملون ولا يؤمنون بالفتور والكسل، ولا يميلون إلى الدعة والاسترواح، بل ويدْعون غيرهم إلى الجِد والحركة النافعة، حتى في أمور الدنيا.
فعن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غداً. فقال له عمر: أعزم عليك؛ لتغرسنها. فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي.
وعن الحارث بن لقيط قال: كان الرجل منا تنتج فرسه فينحرها فيقول: أنا أعيش حتى أركب هذه؟! فجاءنا كتاب عمر: أنْ أصلحوا ما رزقكم الله؛ فإن في الأمر تنفسًا.
وعن الحارث بن لقيط أيضًا قال: قال لي عبد الله بن سلام: إن سمعتَ بالدجال قد خرج وأنت على ودية - نخلة صغيرة - تغرسها؛ فلا تعجل أن تصلحه؛ فإن للناس بعد ذلك عيشًا.
قال الألباني: "ولذلك اعتبر بعض الصحابة الرجل يعمل في إصلاح أرضه عاملاً من عمال الله عز وجل.
فروى البخاري في "الأدب المفرد" عن نافع بن عاصم أنه سمع عبد الله بن عمرو قال لابن أخ له خرج من الوهط - البستان وهي أرض عظيمة كانت لعمرو بن العاص بالطائف - : أيعمل عمالك؟ قال: لا أدري. قال: أما لو كنت ثقفيًا لعلمت ما يعمل عمالك ، ثم التفت إلينا فقال: إن الرجل إذا عمل مع عماله في داره (وقال الراوي مرة: في ماله) كان عاملاً من عمال الله عز وجل ".
وقال الجاحظ: "قال مكرز: العجز فراش وطئ لا يستوطئه إلا الفشل الدثور. وقال عبد الله بن وهب: حب الهوينى يكسب النَّصَب. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم والراحة؛ فإنها غفلة".
وفي غزوة أحد سطر أنس بن النضر صفحة مشرقة من صفحات العزم والجد، والكفاح والإقدام في وقت انتشار الإرجاف، وظهور أثره على القاعدين اليائسين. فقد مر بقوم قد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما تنتظرون ؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني: المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني: المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عُرف، حتى عرفته أخته بعد نهاية المعركة ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم.
وعلى دربهم مضى العقلاء الذين لم توهن عزائمهم الأحداث، ولم توقف سير جدهم المكاره؛ ففي تأليف الكتب النافعة نجد كتَّابًا أفذاذاً أنتجوا للمكتبة الإسلامية كتبًا مازالت مشرقة في جبين العلم إلى اليوم، رغم ما مر بهم من أحداث عامة اجتاحت المسلمين، أو أحداث خاصة ألمَّت ببعضهم مثل السجون، حيث نجد أن بعضًا منهم ألف بعض كتبه وهو مودع في سجنه، فلم تثنه كربات السجن وغمومه عن الإنتاج؛ فأبو إسحاق الصابئ (384ه) ألَّف كتابه "التاجي" في أخبار بني بويه، وهو في السجن.
وأبو بكر السرخسي الحنفي (483ه) ألف كتابه المشهور المطبوع في عدة مجلدات: " المبسوط في فقه الحنفية" وهو في السجن، يقول في آخر كتاب العبادات: " هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات...". ويقول في آخر كتاب النكاح: " هذا آخر شرح كتاب النكاح، بالمأثور من المعاني والآثار الصحاح، أملاه المنتظر للفرج والفلاح...".
ويقول في آخر كتاب الطلاق: "هذا آخر شرح كتاب الطلاق، بالمؤثرة من المعاني الدقاق، أملاه المحصور عن الانطلاق، المبتلى بوحشة الفراق.." . ويقول في آخر كتاب العتاق: " انتهى شرح كتاب العتاق، من مسائل الخلاف والوفاق، أملاه المستقبل للمحن بالإعتاق، المحصور في طرف من الآفاق...."
وابن تيمية (728ه) ألف شيئًا كثيراً وهو في السجن، قال ابن قدامة-وهو يسرد مؤلفات ابن تيمية-: " ومن السجن شيء كثير يحتوي على مجلدات عدة".
والمهدي أحمد بن يحيى المرتضى (840 ه) ألف كتابه" الأزهار في فقه الأئمة الأخيار"، وهو في السجن أيضًا.
لهذا أقول: اعمل أيَّ شيء مشروع نافع لك أو لغيرك؛ فإذا كنت عالمًا فعلِّم، أو داعيًا فادع، أو كاتبًا فاكتب، أو طالب علم فاحفظ، أو عندك شيء تعمله للدنيا فسارع إليه اختراعًا أو صناعة أو زراعة، أو كتابة أو تعليمًا، ولا تنسَ وأنت على ذلك الجِدِّ المسارعةَ إلى الخيرات من الأعمال الصالحات؛ فإن الله تعالى قد دعاك إلى المسارعة والمسابقة والمنافسة فيها.
فاعمل ما استطعت ولا تقعد، ولا تجعل القنوط يتسلل إلى نفسك، وفوِّتْ على أعداء الحق فرصةَ رؤيتك ذابلاً غير عامل؛ فإنهم قد يصنعون الأزمات للمسلمين ليوقفوهم عن الإنتاج لدينهم أو دنياهم، فمن أكثر ما يُغيظهم، ويؤجج حنقهم أن يروك نشيطًا متفائلاً لم تقيدك الأزمات.
ولا تقبل نصيحة الشيطان الكاذبة إن جاءك وأنت منهمك في الإنتاج والعمل، متسلح بالتفاؤل والأمل فقال لك: إنك بارد الشعور نحو المكلومين، غافل عن أحزان المسلمين، وغايته من ذلك أن يقيدك في الغم والأسى، ليبعدك عما أنت فيه من الخير.
فاغرسْ فسائلَ العزم في داخلك، وروح المثابرة في حياتك، وتحرك لفعل ما يفيد، وانتصر على غموم الواقع ومشكلاته، واملأ الفراغ حتى لا يشغلك الفراغ بالهم والغم، فقد قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴾ [الشرح:7]. وفي قوله ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾ حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم حيث لم تترك للمسلم فراغًا في وقته؛ لأنه إما في عمل للدنيا وإما في عمل للآخرة".
ولا تفكر في نتيجة عملك الذي ستقدمه للحياة، فإن لم تنتفع به أنت في حياتك انتفع به غيرك، وربحت الأجر بعد مماتك إن أصلحت النية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه - أي: ينقصه ويأخذ منه - أحدٌ إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة).
قال المناوي: " أخذ معاوية في إحياء أرض، وغرسِ نخل في آخر عمره، فقيل له فيه! فقال: ما غرسته طمعًا في إدراكه، بل حملني عليه قول الأسدي:
ليس الفتى بفتى لا يُستضاء به * ولا يكون له في الأرض آثارُ
... وحكي أن كسرى خرج يومًا يتصيد فوجد شيخًا كبيراً يغرس شجر الزيتون فوقف عليه وقال له: يا هذا، أنت شيخ هرم والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة، فلم تغرسه؟! فقال: أيها الملك، زرع لنا من قبلنا فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا فيأكل، فقال له كسرى: زه - وكانت عادة ملوك الفرس إذا قال الملك منهم هذه اللفظة أعطى ألف دينار - فأعطاها الرجل فقال له: أيها الملك، شجر الزيتون لا يثمر إلا في نحو ثلاثين سنة، وهذه الزيتونة قد أثمرت في وقت غراسها، فقال كسرى: زه، فأعطى ألف دينار، فقال له: أيها الملك، شجر الزيتون لا يثمر إلا في العام مرة، وهذه قد أثمرت في وقت واحد مرتين! فقال له: زه، فأعطى ألف دينار أخرى، وساق جواده مسرعًا وقال: إن أطلنا الوقوف عنده نفد ما في خزائننا".