عالم الرمال
عندما نلتقط بأيدينا قبضةً من رمال الشَّاطئ، ثم ندَعُها تَنْسل من بين أصابعنا بسلاسة، فإنَّنا نكون بهذا قد أحصينا خلال هذه الثواني القليلة ملايين من السِّنين التي تحكي لنا التَّاريخ الجيولوجيَّ لصخور الكرة الأرضيَّة؛ فحُبَيبات الرمل عند تكبيرها وفحصها وتحليلها، يمكنها أن تكشف لنا الكثيرَ والكثير عن أسرار مَنْشئها وتكوُّنِها، وتحكي لنا أيضًا عن دورة تحلُّلها وتفتُّتها، وتفكُّكها وتآكلها؛ من أين بدأَت؟ وإلى أين اتَّجهت، ولماذا تأثَّرت وامتزجت بعوامل بيئيَّة وجيولوجية بعينها، دون غيرها...
فكلُّ حبَّة رمل تمثِّل عالَمًا كليًّا متكاملاً من الإثارة، وكلُّ ذرَّة منها تشكِّل قصة متماسكة لحياةٍ لا تزال تعيش طور التغيُّر والتبدل كلَّ يوم، صباحًا ومساء على مرِّ العصور.
والرَّمل - كما نراه في الواقع - يتشكَّل من موادَّ حُبيبيَّةٍ، تُوجَد بشكل تلقائيٍّ في الطَّبيعة، تتكوَّن هذه المواد الحُبيبية من ذرَّات معدنيَّة ناعمة، كانت في الأصل صخورًا بمنطقة جبَليَّة داخل بيئة برِّية، وبواسطة عوامل ودورات التجمُّد والانصهار تفكَّكت وتحلَّلت إلى ما يُعرف بالجلاميد والحَصى، ومن خلال تأثُّرها بعوامل التحلُّل الكيميائي الممثلة في الأمطار والنباتات؛ تفتَّتت وتحوَّلت إلى ذرَّات من الرِّمال الناعمة، وبهذا فالرِّمال هي فتات وبقايا الصُّخور الصغيرة، ويَصْطلح العلماء على أنه إذا كانت جزئيات الصخر تتراوح أقطارها ما بين 0.05 و 2 مليمتر، فإنَّه يُطلَق عليها "حبَّات رمال"، أمَّا إذا كانت جزئياتها أكبر حجمًا من ذلك بقليل، فإنه يطلق عليها "حصى"، والتي تنقسم إلى قسمين أساسيين، وهُما: صخور الحصى المدملكات، وصخور الحصى الرَّواهص، وإذا كانت حُبَيباتها أصغر من ذلك، فيطلق عليها "الطَّمْي"، أو "الغرين" slit.
يشكِّل الكوارتز - المعروف بالمرو - والفلسبار أساسَ ذَرَّة الرمل التي كانت في الأصل صخرةً قبل أن تتفتَّت، وبعد أن تفتَّتت هذه الذرَّات جرفَتْها مياه الأمطار نحو المنحَدرات إلى حيث توجد مجاري الأنهار، وهناك تدحرجَتْ هذه الحبيبات، وتقافزت، وانحدرت، حتَّى وصلَتْ إلى قاع النَّهر، وهناك تكوَّمت وتراكمت في دوامة أو داخل جلمود، ثم تفرَّقَت وانبسطَت وتمدَّدت وانتتشرَت بطول هذا القعر؛ لتعود لتتجمَّع وتتقارب وتتكوم مرَّة أخرى، وتتكرر عمليات التجمُّع والتفرُّق هذه المرة تِلْوَ الأخرى خلال سنوات طويلة جدًّا، حتى ينتهي المطاف بذرَّات الرمال التي غادرت موطنها الجبَليَّ الأصلي إلى أنْ يستقرَّ الحال بجزءٍ منها على شاطئ نهر، في حين يتبعثَر جزءٌ منها على جنبات الطريق، في الوقت الذي يثبت ويترسَّب فيه جزء آخر منها في عمق قاع النَّهر.
وأثناء عملية تنقُّل حبيبات الرمل داخل مياه النهر، تقوم بعضٌ من مكوِّنات هذه الأنهار الكيميائيَّة بِصَقْل حبيبات الرمل، وإكسابها درجةً من اللمعان والبريق الشديد، أمَّا الرياح فتلعب دورًا أساسيًّا في حركة تكثيف أو توزيع ونشر الرِّمال في منطقةٍ دون أخرى، فإن كان الغطاء النباتي كثيفًا تتوزَّع حبيبات الرَّمل بخفَّة، وتفقد قدرتها على الانتشار لمسافات طويلة أو عميقة، أمَّا إذا كان الغطاء النباتي مضمحِلاًّ فإن حبيبات الرمل تنطلق من عقالها، وتنتشر على مساحة شاسعة أفقيَّة من الأرض، كما أنه في بعض الأحيان تقذف الرِّياح حبيبات الرمل الصغيرة رأسيًّا إلى أعلى لأكثرَ مِن ارتفاع قدَم؛ لتنتشر على مساحةٍ أكبر تتجاوز الرُّقعة المتوقَّعة، وهذا النوع من الرِّمال لا يتَّسم باللمعان أو البريق؛ شأنه شأن الرِّمال المستقرَّة بقيعان الأنهار، وإنَّما يكوِّن حبيبات رمليَّة ذات مَظْهر مُعْتِم، حالكٍ غير شفاف.
ولكن ماذا عن رمال شواطئ البحار؟
إنَّ رمال شواطئ البحار تتكوَّن في بعض الأحيان من حُطَام وفتات الأحجار الكلسيَّة التي تتشكل داخل البحار أو بجانبها، ولكنها تكون في أحيان أخرى المنتج النِّهائي لتحلُّل الحيوانات اللافقاريَّة البحرية المجهرية، والتي كثيرًا ما تتحلل بكميات وفيرة، وذلك عندما يتزامن كون مياه البحر دافئةً، مع تزايد الأنشطة الحيويَّة بداخله، ومن الملاحَظ أنَّ حبات الرمال المترسِّبة بالبحار - والأنهار أيضًا - تكون عادة أكثر تناسبًا في الحجم مع بعضها البعض عن رمال الصَّحاري؛ وذلك لأنَّ الماء يقوم بنخْل وتَصْفية رواسبه، فتتجانس أبعاد ذرَّات هذه الرواسب وتنعم؛ وذلك لكون الماء ذاته مخفِّفًا للصدمات، أمَّا رمال الصحاري فتتكوَّن في غالب الأحيان نتيجة للتحاتِّ الرياحي.
وإذا نظرنا إلى أسطح حبيبات تلك الرِّمال، فسنجدها باهتةً ومعتمة وخشنة، كردِّ فعلٍ لكثرة الصَّدمات التي تعرَّضت لها عند نَقْلِها من مكانٍ إلى آخَر بواسطة الرياح، وخاصة السريعة منها، وكردِّ فعل للاحتكاك المباشر الذي يَحْدث بين الذرَّات، ويسبِّب لها السحج abrasion، وبعض التَّآكُل في سطوحها الخارجية.
وبعيدًا عن الأهميَّة الاقتصادية البالغة للرِّمال، والتي يَعتبرها البعض بمثابة ذهبٍ خفي لم يستغلَّه أحدٌ بعدُ الاستغلالَ الأمثل؛ نجد أننا إذا ألقَينا نظرة عَجْلى على أصناف وألوان الرِّمال بالعالَم، فسنَعثر على لوحة كونيَّة باهرة لعالَم الرمال الرائع اللامتناهي، فبخلاف معرفتنا التقليديَّة لشكل الرمال المعتاد، نجد على شواطئ جُزر الباهاما امتدادًا لأنواع من الرمال البيضاء اللون المكوَّنة من حبيبات صلدة متألِّقة من الحجر الجيري، تشبه الخزف.
أمَّا على شواطئ سيلفر ساند بجراند باهاما، فنجد أنَّ الرمال هناك تكاد تكون مؤلَّفة بالكامل من حطام وبقايا الشِّعاب المتحللة، أما في الشاطئ الشمالي لنيوهامبشير، فسنجد أن الرمال هناك عبارةٌ عن مزيج من الكوارتز عديم اللَّون والفلسبار ذي اللَّون الأحمر الورديِّ والكهرماني، والمعادن النارية المعتمة سوداء اللَّون؛ وذلك كلُّه بسبب إلقاء صفيحة جليد الولايات المتَّحدة عقب انحسارها لكمِّية هائلة من الحُطَام على طول الساحل الشمالي الشرقي الوعر للولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هاواي يتشكَّل الرمل الأسود الشهير هناك من زجاج بُرْكاني تكسَّرَت أجزاء منه بفعل قوَّة المياه والأمواج، حتَّى تحوَّلَت إلى رملٍ أسود ناعم، ويوجد بالشاطئ الجنوبي لميتشجان شرائطُ رمليَّة سوداء، تُحاذي خطَّ الماء، وهذه الشرائط تتكوَّن من حبيبات ثقيلة مغناطيسيَّة صلدة، تبدو كما لو كانت رملاً مُشرَبًا بالنفط، وهي توجد جنبًا إلى جنب معَ حبيبات الكوارتز الخفيفة، ونظرًا إلى ثقل هذه الحبيبات؛ فإنَّها تظلُّ عند حافة الماء، في الوقت الذي تقذف فيه الأمواجُ حبيبات الكوارتز الخفيفة إلى مستويات أعلى من الشاطئ.
وفي سان تروبي بالريفييرا تمتزج الرِّمال هناك بأصداف العديد من الحيوانات الغريبة، التي تقذف بها الأمواجُ إلى الشَّاطئ، فنجد بداخل الرمال هناك قواقع مخروطيَّة لمعديات الأرجل، وقواقع طويلة أنبوبيَّة مقوَّسة، وبللورات كبيرة الحجم من الميكا السوداء الذهبيَّة، وقضبانًا لأشواك الأسفنج، وقنافذ البحر.
وامتزاج الكائنات البحرية بالرِّمال على الشواطئ لا تقتصر بالريفييرا الفرنسية وحدها، بل توجد أيضًا بشواطئ سفن مايل بأستراليا، حيث تمتزج الرِّمال هناك بالأصداف والمرجانيَّات صغيرة الحجم، وبشويكات الأسفنج ثُلاثية المَحاور، وبالأصداف الكرويَّة حديثة النَّشأة، وبقواقع وأصداف معديات الأرجل وذوات المصراعين.
وفي سيفورد بالمملكة المتحدة تختلط بالرِّمال هناك القواقعُ البيضاء، والأصداف المسطَّحة الزرقاء والبُنِّية اللون.
أما في جزر تاكيتومي شيما بجنوب اليابان، فإنَّ الرمال هناك تتَّخذ أشكالاً نجمية بديعة، هي في واقع الأمر أصدافٌ للمنخربات، وهي كائنات مجهريَّة وحيدة الخليَّة، تتواجد عادة بالمحيطات والمسطحات المائية الشاسعة، ولا يمكن تصنيفها إلاَّ من خلال تحليل ودراسة أصدافها، كما أنَّها تكون لقواقع حلزونيَّة زجاجية لمعديات الأرجل وأشباهها من القواقع.
وإذا نظرنا بإيجاز إلى الأهمية الاقتصادية للرمال، فسنجدها تشكِّل المادة الأساسية لصناعة الزُّجاج، بالإضافة إلى أنَّها إحدى موادِّ البناء الرئيسية، وأحدُ مكوِّنات الخراسانات، وذلك بخلاف كونها أحدَ المكونات الثانويَّة للطوب والطِّلاء.
ومن الجدير بالذِّكْر أن العلماء يتطلَّعون الآن إلى الاستفادة من ثروات العالَمِ العربي الممثَّلة في الصحاري والرمال، والطاقة الشمسيَّة الوفيرة، فبدلاً من النظرة التقليديَّة إلى الصَّحراء على أنَّها أرضٌ صحراوية، يتوجب تخضيرها، ومن ثَمَّ يتوجب تغيير جلدها لشيء يصعب جدًّا أن تكونه، يتمُّ اعتبارها إمكانيات واعدة لتوفير الطاقة من خلال رمالها الشَّاسعة اللانهائية.
وتنصبُّ الآمال في الوقت الراهن على بناء محطَّات كهرورملية، تنتج الطاقة الكهربيَّة بسعرٍ معتدل، وتكون نظيفة وصديقة للبيئة في ذات الوقت؛ وذلك عن طريق استغلال الطاقة الكامنة والحرَكيَّة للرمال، وذلك مع التسليم بأنَّ طاقة الرمل تفوق مثيلاتها من أنواع الطاقات الأخرى النظيفة المتجدِّدة، فطاقة الرمال متوفرة داخل أماكنها طيلة الوقت، بعكس الطاقة الشمسيَّة مثلاً - والَّتي تعدُّ تكلفة توليدها هي وطاقة الرياح مرتفعةً بالمقارنة بطاقة الرمل، والتي لا يمكن الاستفادة منها إلاَّ أثناء فترة النهار فحَسْب، وبهذا تكون الرمال قد برهنَتْ على عكس ما تُنادي به الفكرة السائدة، والقائلة بشدَّة خطورة ظاهرة التصحُّر، ووجوب مكافحتها بضراوة، وأثبتت أن الصحاري تمتلك أعظم ما نحتاج إليه اليوم؛ تمتلك ما نحن في أمَسِّ وأشدِّ الحاجة إليه، ما تقوم من أجله الحروب بين الدُّول... إنَّها - ببساطةٍ - تَمْتلك الطاقة.