من جمعَت الفضائل.. الزهراءُ البتول.. تذوبُ حزناً!
قد تقصر أحياناً العبارات، وتُصم الاشارات، ولم يبق إلا أحوال مستشعرات، تُنبيك عن مشاعر ثائرات، أن يُفقد الحبيب فلا يملأ الفراغ صديقٌ ولا قريب، من كان حياته رحمات فموته أكبر المصيبات.
ما أصعب الامتحان على الشعور أن تقضيَ نفس الحبيب وتهجُر الأوطان، كيف للعين أن ترى العيان؟ بعد ذاك المحيا والتباشير الحسان، بعد تبسم يورث الخائف الأمل، ويمنح الحزين الجذل، كيف لآذان أن تسمع بعد حلو المنطق ونغماته، من إيجاز وإطناب أعجز هواته، مزامير داود في أصواته، وترانيم الجمال في نبراته؟!
حب رسول الله يلامس القلوب، ويملأ شغافها، والابتعاد عن المحبوب مظنة المهلكة، فكيف إذا فرق بينهما الموت بلا تلاقٍ بعدُ في الدنيا...
والوعد الحق أن يلتقيا في الآخرة وهي أسرع الأهل لحوقاً به؛ كما أخبر صلوات ربي وسلامه عليه، حق لقلب أن ينفطر، وحق لجسد أن يذوب حزناً على فراق المحبوب.
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: (لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام: وَا كَرْبَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهَا: ((لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ))، فَلَمَّا مَاتَ.. قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ؛ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ؛ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يَا أَبَتَاهْ؛ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ، فَلَمَّا دُفِنَ.. قَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام: يَا أَنَسُ؛ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ) .
قال ابن حجر: وأشارت عليها السلام بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك؛ لأنه يدل على خلاف ما عرفته منهم من رقة قلوبهم عليه لشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلا أنا قهرناها على فعله امتثالاً لأمره.
يقول سيدنا أنس رضى الله عنه: (لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.. أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أظلم منها كل شيء، قال: وما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا).
ونقل الإمام الذهبي في ترجمة سيدتنا فاطمة رضى الله عنها وعن أبيها قوله:
وقال يَزِيْدَ بنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الْحَارِثِ قال: مَكَثَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَهِيَ تُذَوِّبُ .
وروى عنه أنه قال: مكثت بعد أبيها ستة أشهر، وهي تذوب، وما ضحكت بعده أبداً!! .
روى الطبراني... عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: «مَكَثَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَمَا رُئِيَتْ ضَاحِكَةً بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...» .
قال الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ .
اللهم اجمعنا بها وبرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، وإنا لفي شوق لرؤيته في الدنيا قبل الآخرة، وإنا لنذوب للقائه ولا حول ولا قوة الا بالله.
قال الذهبي: والصحيح أنها ماتت وعمرها أربع وعشرون سنة. وقيل: إحدى وعشرون. وقيل: ست وعشرون وقيل: ست وعشرون وقيل: تسع وعشرون. وقيل: ثلاث وثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون .
وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيّدنا مُحمّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.