كثُرَت الدراساتُ والبحوثُ، والأدويةُ والتحاليل، وتدريبات البرمجة اللغوية العصبيَّة، وتنوَّعت الآراء والنظرياتُ والأفكارُ والمعتقداتُ، والأخذُ والردُّ حوْل كابوسٍ يهدِّدُ الإنسانَ، ويطاردُه بشكلٍ عام، إنه طيفُ الهمِّ والحزن، وشبَحُ القَلق والضِّيق والاكتئاب الذي يُعاني منه شريحةٌ كبيرةٌ من الناس المثقفين ورجال الشارع، الأغنياء والفقراء، حتى المسلمين وغيرهم من قديم الزمان، وذلك لسببٍ أو لآخر، ولكن "أشد الناس كآبةً منْ لا يَعرِفُ سببَ كآبته"؛ كما يقولُ الشاعرُ والكاتب اللبناني جبران خليل جبران.
ولقد بلغَ من خطورة الهمِّ والحزن على حياة الإنسان، وأَمْنه الفِكري واستقرارِه النفسي - أنِ استعاذَ نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم منهما ومِنْ أمثالهما؛ حيثُ كان صلى الله عليه وسلم يُكثِّر في دعائه من قول: ((اللهم إني أعوذُ بكَ مِن الهمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكسَلِ، والبُخلِ والجُبنِ، وضَلَعِ الدَّينِ وغَلبةِ الرجال))؛ البخاري، (6363).
فما الهمُّ والحزنُ؟ وما خطورتُهما على حياةِ الإنسان وفكْره وعطائِه؟ وما الأضرار النفسية المترتبة لهما على شخصية الإنسان ومجتمعه؟ وهل هناك تدابيرُ واقيةٌ وحصونٌ منيعةٌ تَحمي المسلمَ من جُنود الهمِّ والحزَن؟ هذا وغيره مما سنُجيب عليه في الأسطُر القادمة بإذن الله تعالى.
الهمُّ مفرد، وجَمعه همومٌ، يُطلق على المكروه الذي يخافُ منه الإنسان مستقبلًا؛ كضياع الوظيفة أو المَنصب، ونزول المصيبة والمرض، أو الخوف مِنْ فَقْدِ الأحبَّة والمالِ والجاه، وغير ذلك، أو عدم النجاحِ في مهمَّةٍ أو عملٍ أو مقابلةٍ، أو غير ذلك، وكلما ازداد التفكيرُ السلبي، وأشغلَ بالَ الإنسان، وأَرَّقَ فِكْره، ثَبَتْ جنودُ الهمِّ والغَمِّ في عَقْله وفِكْره بقوةٍ؛ يقولُ البُحتري:
أما الحُزْنُ والحزَنُ، فمادتهما واحدةٌ، ومعناهما متقاربٌ، وهو نقيضُ الفرح والسرور؛ كما يقولُ صاحب (اللسان)، والفرقُ بينهما أن الحَزَن بفتح الزاي: هو الأسى والهمُّ والاستياءُ والاكتئابُ الدائم مع الإنسان، أما الحُزْنُ بضم الحاء وسكون الزاي، فهو حالة مؤقَّتة من الغم والكآبة، باطنةٌ يُترجمها الظاهرُ في الغالب، وهو سببٌ رئيسٌ للقلقِ والاضطراب، وربما يَمحو حزنٌ حزنًا آخرَ؛ كما يقول الشاعر:
وإني رأيتُ الحُزْنَ للحُزْنِ مَاحِيًا *** كمَا خطَّ في القِرطاسِ سطرٌ على سَطْرِ
ويفرِّق الإمام ابن القيم - رحِمه الله - بين الهمِّ والحزن والغَمِّ، فيقول: "المكروه الوارد على القلب، إن كانَ مِن أمرٍ ماضٍ أحدَثَ الحزَنَ، وإن كانَ مِن مستقبلٍ أحدَثَ الهمَّ، وإن كانَ مِن أمرٍ حاضرٍ أحدَثَ الغَمَّ"؛ (فوائد الفوائد؛ ابن القيم، ص 60).
والهمُّ والحزنُ مِن الأشياء التي تَهدِمُ صحةَ الإنسان، وتسببُ الاكتئابَ والقَلَق، وهما مِنْ أهم أسباب الانتحار في العالم؛ حيثُ تشيرُ أرقامُ وإحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أرقامٍ مُخيفة؛ إذ يموتُ نحو 800 ألف شخصٍ منتحرًا كلَّ عامٍ؛ أي: بمعدل شخصٍ واحدٍ كلَّ 40 ثانية!
وتقولُ التقارير: إن أكثر من 4 % مِن سكان العالم يعانون الاكتئابَ، وإن 322 مليون شخصٍ عانَوْا من اضطرابات مرتبطة بالاكتئاب في 2015م، وإن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن القَلقِ والهم والحزن والمَلل على مستوى العالم، تتجاوز تريليون دولار سنويًّا، في إشارة إلى الخُمول وفِقدان الإنتاجية، وعدم الشعور بالسعادة والأمان لدى الشخص المصاب بالهم والحزن؛ يقولُ المثلُ الصيني: إنكَ لا تستطيعُ أن تَمنَعَ طيورَ الحزن مِن أن تُحلِّق فوق رأسك، ولكنك تستطيعُ أن تَمنَعَها مِن أن تعُشِّش في شعرِك، ويقولُ المتنبي:
ومِن أهم أسباب الهم والحزن التي لم تَذكُرَها التقاريرُ الدولية، ولم تُشير إليها إلا فيما ندَر - قطعُ صِلة العبد بالله تعالى، والإعراض عن ذِكره تعالى؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124].
قال ابن كثير - رحِمه الله - في تفسيره لهذه الآية الكريمة: "أي: مَن خالَفَ أمري، وما أنزلتُه على رسولي، فأعرَضَ عنه وتناسَاه، وأخذَ من غيره هُداه، فإن لهُ معيشةً ضَنْكًا في الدنيا، فلا طُمأنينة له، ولا انشراحَ لصدرِه، بل صدرُه ضيِّقٌ حَرِجٌ لضلاله، وإن تَنعَّمَ ظاهرُه، ولَبِسَ ما شاء وأَكَلَ ما شاءَ، وسكَنَ حيث شاء، فإن قلبَه ما لم يَخلُصْ إلى اليقين والهدى، فهو في قلقٍ وحَيرةٍ وشَكٍّ، فلا يزال في رِيبةٍ يتردَّد، فهذا مِن ضَنْكِ المعيشة.
أما المؤمن بالله تعالى المتعلِّقُ قلبُه بالله دون سواه، المتابعُ لكتاب الله وسُنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، المنقادُ لأحكامه - فإن الله تعالى يُحييه حياةً طيبةً تَشمَلُ جميعَ وجوهِ الراحة والاطمئنان والسعادة، وانشراح البال وسُكون النفسِ، مِصْداقًا لقوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
ومن هنا فإن انشراحَ الصدر للإسلام، واطمئنانَه إلى الإيمان، ومبادرته للخير ومرضاة الرحمن - دليلٌ على هداية الله لعبده، وتوفيقه لأقوم الطرق وأحسنها، وإن ضِيقَ الصدر عن الإيمان والعلم والطاعات، وانغماسه في المحرَّمات من الشُّبهاتِ والشَّهَوات، وامتناعه من المبادرة إلى الخيراتِ والصالحات، دليلٌ على البُعدِ عن الله تعالى، وسببٌ للهلاك والمُوبقات؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].
وهناك أمورٌ وأسباب أورَدَها الإسلامُ لتخفيف موجة الهمِّ والحزن، ومقاومة جنودهما، ومن ذلك:
1- الرضا بقضاء الله تعالى وقَدَرِه، والصبرُ على كل ما يُسبِّبُ الهمَّ والحزن، فكل شيءٍ قضاءٌ وقدرٌ، والمؤمنُ يوكِل الأمورَ إلى الله تعالى، ويَرضى بما قضى الله تعالى، لأن أمرَه كلَّه خيرٌ؛ إنْ إصابتْهُ سرَّاءُ شكَرَ فكانَ خيرًا لهُ، وإن أصابتْه ضرَّاءُ صبَرَ فكانَ خيرًا له؛ يقولُ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما مِنْ شيءٍ يُصيبُ المؤمنَ مِن نَصَبٍ، ولا حزنٍ ولا وَصَبٍ، حتى الهم يُهَمُّهُ، إلا يُكفِّرُ اللهُ بهِ عنه من سَيئاتِهِ))؛ صحيح الجامع، (69678).
2- التوسلُ إلى الله تعالى بأسمائهِ الحُسنى وصفاته العلا، وكثرةُ التضرُّع إليه، فهو مِن أحبِّ الوسائل إليه؛ كما وردَ في الحديث الذي رواه عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما قالَ عبدٌ قطُّ إذا أصابَه هَمٌّ أو حزنٌ: اللهم إني عبدُكَ، ابنُ عبدِكَ، ابنُ أَمَتِكَ، ناصِيَتي بيدِكَ، ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فيَّ قضاؤُكَ، أَسأَلُكَ بكل اسمٍ هو لكَ، سَمَّيْتَ به نفسَكَ، أو أنزَلْتَه في كتابِكَ، أو علَّمْتَه أحَدًا مِن خَلْقِكَ، أو استَأثَرْتَ به في عِلمِ الغيبِ عندَكَ - أنْ تجعَلَ القُرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ بصَري، وجِلاءَ حُزْني، وذَهابَ همِّي، إلا أَذْهَب اللهُ همَّه، وأبدَله مكانَ حُزْنِه فرَحًا))؛ صحيح ابن حبان، (972).
يقولُ الإمامُ ابن القيم - رحِمه الله -: "ولَمَّا كانَ الحزنُ والهمُّ يُضاد حياةَ القلب واستنارته، سألَ أن يكونَ ذَهابُها بالقرآن؛ فإنها أحرَى ألا تعودَ، وأما إذا ذهَبت بغير القرآن؛ مِنْ صِحةٍ، أو دنيا، أو جاهٍ، أو زوجةٍ، أو ولدٍ، فإنها تعودُ بذَهابِ ذلك"؛ (الفوائد؛ ابن القيم، ص 60).
3- العودة إلى الله تعالى، والإقلاعُ عن المعاصي بالتوبةِ الصادقةِ، فهو الكاشفُ لكلِّ كُربةٍ، النافعُ الضارُ، وبيده مفاتيحُ الفرج، وعندهُ خزائنُ كلِّ شيءٍ، وكلتا يديه يَمينٌ، ولا فارجَ للهمِّ والكرب إلا هو، فلا تَبحثْ عبَثًا على أبواب الآخرين، والله أقربُ إلينَا مِن حَبلِ الوَريد.
4- كثرةُ ذِكر الله تعالى، فإنه بَلْسَمٌ للقلب والرُّوح، وسببٌ للطُّمأنينة والاستقرار، ومِفتاحٌ عظيمٌ من مفاتيح الفرج بإذن الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
شمعة أخيرة:
اعلَم أن الحزن والهم، والفرح والسرور، والنعيم والبُؤس، والسعادة والشقاء - أشياءُ لا تَدوم على الإنسان، ولذا فلا بد مِن تَسْليةِ النفسِ وتقويمها على الرضا بقضاء الله تعالى وقدَرِه، والتعوذ بالله تعالى منها؛ يقولُ رجلٌ من قريش:
شكري وامتناني لك على جمالية انتقائك .. ربي يجزيك الخير ويبارك بجهودك الطيبة
قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : " العراق جمجمة العرب وكنزالرجال ومادة الامصار ورمح الله في الارض فاطمئنوا فإن رمح الله لا ينكسر " فليخسئ من يتكلم عن العراق بسوء ___
الليدي لين نائبة المدير العام
الأوسمة :
عدد الرسائل : 56848 تاريخ التسجيل : 18/02/2008 السٌّمعَة : 141