خلق الله الإنسان وجعل له عقلًا يميز به الخير من الشر، ويبصر به النفع من الضر، ويمنعه عن التورط في المهالك، ويرشده إلى أفضل المسالك.
ثم جعل هذا العقل مناط التكليف، به يعرف العبد ربه، ويبصر به دربه، فهو وسيلة الإدراك والتمييز والحكم.
وقد احترم الإسلام العقل وكرمه، فجعله واحدًا من المقاصد الخمسة التي أوجب الشارع حفظها، وجرّم أي عدوان عليه، وفرض العقوبة على من تجاوز حده واعتدى عليه.
كما فتح له باب الاجتهاد والتفكير والتدبر، والنظر والتأمل، والاستحسان والقياس، والمصلحة المرسلة، وسدِّ الذريعة، ونحوها مما لا يعرف إلا بالعقل، ولا يتوصل إليه إلا بإعمال الفكر.
كما نزهه عن الفواحش و المحرمات، والأدواء التي تؤثر عليه وتعطل عمله، وتشلّ قدراته وتحد إمكانياته، وتعيقه عن الانطلاق قُدُمًا في تحقيق غاياته؛ فحرم الخمر وما شابهها مما يعطل العقل ويخل بنظامه، وحذر من الحزن والهم و الخوف والكسل، قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران/139]، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل).
وحث على طلب العلم الذي يحرر العقل من الخرافات والأوهام والتعصب المذهبي والتقليد الفكري والجمود المعرفي.
فحين يتقاعس العلماء عن أداء دورهم المنوط بهم لا يجد العوام سوى المتعالمين الجهلاء؛ الذين فقدوا كل مسلَّمات العقل وأدوات التفكير وقواعد الاستدلال، فإذا سُئلوا خجلوا من افتضاح جهلهم وظهور قصورهم، فلا يجدون بُدًّا من الجواب بلا علم؛ فيفسدون أكثر مما يصلحون.
إن شبابنا عقولهم وأرواحهم مستهدَفة، لذا لا بد من تحصينهم ضد الأفكار الهدامة والتيارات المنحرفة، والمفاهيم الشاذة الدخيلة.
ولا نُغفل الدور المؤثر للبيئة الحاضنة على عقول الشباب وأفكاره وتصوراته وسلوكياته بشكل مباشر؛ سواء في مسؤولياتها عن انحراف وضلالاته، أو التزامه بقصد السبيل.
وحين يضعف الإيمان في القلب، ويزيغ عن العقيدة الصحيحة يصبح العقل في مأزق؛ فيضل وينحرف عن مساره السليم.
إن تغليب سيادة العادة والهوى، وتبنّي الخرافات، والترويج للشائعات، والانشغال بالأغاليط والتمسك بالتبعية الفكرية والتعصب الأعمى يقود إلى أزمات في الفكر والاعتقاد، ويملأ النفوس باليأس والقنوط، ويسهّل الخضوع لعوامل الهزيمة النفسية التي نجحت أن تُدخل في روعهم لفراغ عقولهم أن الانحلال من ضروريات المدنية والتحضر، فاستهوتهم مظاهر الحياة الغربية.
كم من مصائب ونكبات، وهزائم وانتكاسات، أصابت الأمة في مقتل جرَّاء الانحراف الفكري الذي أصاب العقول نتيجة لفراغها من محتوى ثقافي يحفظها، ومصادر معرفية تستند إلى مرجعية إسلامية، وتثبت في منهج تلقي العلم وتوثيق المعلومات وإثبات الحقائق.
لا نريد لعقولنا أن تأخذ موقف التبعية والتقليد الأعمى، أو تتبنّى ثقافة الاستسلام للموروث الثقافي، وتنتهج مناهج الغير المنحرفة دون تأملٍ ونظرٍ واستدلال.
كم ساعدنا الدول الغربية بعقولنا المسلمة الفتيّة، ثم قصرت تلك العقول عن النهوض بأمتنا، فتقدم الغرب وتخلّفنا، فلا إنجاز يُذكر، ولا مبادرة تُحمد.
إن منهج الإسلام في احترام العقل منهجٌ وسطي، فلم يهمل العقل؛ إذ إن تهميشه وتعطيله يفقد المرء توازنه فيصبح كَلًّا على فكر غيره، نهبًا لكل دعوة، متَّبعا لكل خرافة أو شعوذة، وفي الوقت نفسه لا نؤلهه ونرفعه فوق قدره وحدود طاقته ومستوى إمكاناته، ولا نقدسه مقابل التهوين بشأن النصوص الشرعية، فلا نستقي منه عقيدتنا، أو ننصبه حاكمًا عليها، وربما كانت هذه الحكمة من إرسال الرسل فالعقل وحده قاصر عن الوصول إلى الهدى دون توجيهه و إرشاد، ولذا سنَّ له السؤال عما لا يدركه بنفسه ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل/43].
إن مسؤوليتنا جميعًا، ومسؤولية كل قادر أن ينير رقعة ولو صغيرة من طريق النهوض لهذه الأمة التي تتكاثر عليها التحديات، ويتكالب عليها الأعداء، مستعينين برب الأرض والسماء، فهو سبحانه الكريم المعطاء.