استمداد الأحكام الشرعية بين العقل والنقل
لا شكَّ أن فقهاء الشريعة الإسلامية، لم يكونوا يُصدِرون الأحكام الشرعية عن هوًى وفراغٍ، بل كان مَفزعُهم ومَرجعهم في ذلك مجموعة من الموارد النقلية والعقلية؛ نذكر منها:
الموارد النقلية:
• القرآن والسنة: لقد كان القرآن الكريم والسنة النبوية، المصدرين الأساسين لاستخراج الأحكام الشرعية منذ صدر الإسلام إلى عصر الانحطاط العلمي الذي حلَّت فيه أقوال فلان وعلان محلَّ النصِّ الشرعي؛ فأصبحت الأحكام الشرعية تُلقَّن وتُؤخَذ، وتُدوَّن على شكل بنود قانونية بَحتة مجرَّدة عن النص الشرعي، لا يعرف لها طالبُ العلم سندًا ولا خطامًا.
إن الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ جاء بعدهم من الفقهاء، ما كانوا يبغون عن الدليل الشرعي حولًا، ولا كانوا يَعدِلون عنه إلى غيره، إلا بعد انعدامه في خصوص قضية بعينها، ويَشهَد لهذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لَمَّا بعثه إلى اليمن: ((بم تقضي؟))، قال: بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجِد؟))، قال: فبسُنَّة رسول الله، قال: ((فإن لم تجِدْ؟))، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، وهكذا " كان الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أمام حوادث لا تتناهى ولا تُحصَر، وبين أيديهم كتاب الله، والمعروف من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلجؤوا إلى الكتاب، يعرضون عليه ما جدَّ من حوادث، فإن وجدوا حكمًا صريحًا حكموا به، وإن لم يجدوا في الكتاب الحكم واضحًا، اتَّجهوا إلى المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستثاروا ذاكرة أصحابه؛ ليُعلِنوا حُكْمَ النبي صلى الله عليه وسلم عليه في أمثال قضاياهم، فإن لم يكن بينهم مَنْ لم يحفظ حديثًا، اجتهدوا آراءهم، ومثلهم في ذلك مثل القاضي المقيَّد بنصوص القانون، إذا لم يجد في النص ما يحكم به في قضية بين يديه، طبَّق ما يراه عدلًا وإنصافًا"، وتبعهم على هذا المنهج أئمة المدارس الفقهية الأربعة، وغيرهم من المجتهدين، فلم يكن فيهم من لم يعتمَد القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، مصدرًا وموردًا لاستنباط الأحكام الشرعية، بل من أجل الحفاظ على هيبة النص الشرعي، وبقائه موردَ المستنبطين والمجتهدين، لم يُقدِّموا عليه رأيًا ولا قولًا، وهذا يعني أن أساس التفقُّه في الدين، هو النص الشرعي؛ فمنه المنطلق وإليه الرجعى.
• الإجماع: وهو المورد الثالث بعد القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة من الموارد النقلية التي تُستنبَط منها الأحكام وتُقرَّر، وقد نتساءل: كيف يمكن عدُّ الإجماع موردًا نقليًّا مع أنه ليس بنص؟ والجواب: أن الإجماع في حقيقة أمره كاشفٌ عن الدليل، ومتضمِّنٌ للنصِّ الشرعي، وليس موردًا مستقلًّا بنفسه؛ لأن الأمة الإسلامية معصومة بمجموعها؛ فلا تجتمع على ضلالة، ممَّا يعني أن النص متضمَّن في هذا المورد، وأن الأحكام المقررة في الفقه به، راجعةٌ بالأساس إلى النص الشرعي؛ لهذا يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "ومستند الإجماع في الأكثر نصوص متواترة، وأمور معلومة بقرائن الأحوال، والعقلاء كلُّهم فيه على منهج واحدٍ"، وقد قسَّم الشريف التلمساني رحمه الله الموارد التي تُستنبَط منها الأحكام الشرعية إلى قسمين كبيرين:
1- دليل بنفسه: القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة.
2- ومتضمن للدليل: وَعَدَّ من هذا القسم الإجماعَ.
وقد لجأ الصحابة قبل غيرهم إلى هذا المورد في استنباط الأحكام؛ فقد أجمعوا على تنصيب أبي بكر رضي الله عنه خليفةً للمسلمين بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأصبحت طاعتُهم له واجبًا شرعيًّا بهذا الإجماع، والخروج عنه خروجًا عن الجماعة التي صرَّحت النصوص بالتزامها والانضواء تحت رايتها؛ إذ قال الله تعلى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
ثم توالى العمل بإجماع المسلمين، وعده أصلًا وموردًا، تُؤخَذ منه الأحكام الشرعية، في كل طبقة من طبقات الفقهاء، حِقبةً تِلوَ أخرى!
وإذا نظرنا إلى منهج تعامل الفقهاء مع هذه الموارد النقلية، سنجد أن للعقل حضورًا قويًّا فيها، خاصة أثناء تقرير الأحكام واستخراجها، ويُمكن أن نُبرهِن على حضور سلطة العقل في النص الشرعي من خلال إبراز الخطوات التي يتبعها الفقهاء في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية، وهي كالآتي:
الخطوة الأولى: استقراء النصوص المتعلِّقة بمحل النظر الفقهي؛ وذلك لمعرفة مُطلقِها من مُقيدها، وخاصها من عامها، وناسخها من منسوخها، ولا شكَّ أن عملية الاستقراء عملية عقلية محضة.
الخطوة الثانية: النظر في طبيعة تلك النصوص؛ من حيث القوةُ والضَّعْف، ومن حيث وضوحُ دَلالتها على الحكم المطلوب، ومن حيث كل ما يتعلَّق بها ليجعلها منتهضة لأنْ تكون نصًّا شرعيًّا تُستنبَط منه الأحكام، ولا شكَّ أيضًا أن الفقيه في هذه الخطوة مدفوعٌ شاء أم أبى إلى التوسُّل بقواعد علم مصطلح الحديث، وهي قواعد عقلية في ذاتها، وعقلية في طريقة وكيفية تنزيلها.
الخطوة الثالثة: تحليل تلك النصوص النقلية وتفكيكها باستحضار واستعمال القواعد الفقهية والقواعد الأصولية، والقواعد النحوية واللغوية، وفي هذه الخطوة يَبرُزُ دورُ العقل في استمداد الأحكام الشرعية؛ لأن فيها يَفتقر الفقيه إلى مجموعة من القواعد العلمية التي بُنيت وقُعِّدت أساسًا على العقل.
الخطوة الرابعة: تقرير الحكم وإثباته؛ فتقرير الحكم وإثباته يأتي نتيجةَ مجهودٍ عقلي كبير.
الموارد العقلية:
الاجتهاد: وأعني به استعمال العقل في النوازل الشرعية التي لا يوجد نصٌّ بخصوصها، بعد استكمال شروط الاجتهاد، والتأهُّل لممارسة الإنتاج الفقهي.
والاجتهاد شامل للقياس، والاستحسان، والاستصحاب، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، وهي قواعد عقلية وظَّفها الصحابة والتابعون قبل غيرهم في اشتغالهم الفقهي؛ أي: إنهم كانوا يمارسونها عمليًّا، وإن لم يسموها بهذه الأسامي التي هي عليها الآن، فـ"استنباط الأحكام للنوازل والوقائع المستجدَّة، بناءً على قواعد عقلية لم تكن مسطرة لديهم، ولكنها كانت كامنةً عندهم، ومعروفةً فيما بينهم، ومتضمنةً في أقوالهم واجتهاداتهم"، وأمثلة ذلك في كتب الفقه غزيرة، لا حاجة لاستدعائها هنا، فلتنظر في مظانِّها.
وقد ساق الإمام الشاطبي قدَّس الله سرَّه في هذا كلامًا نفيسًا؛ قال رحمه الله: "الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض، والثاني: ما يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقرٌ إلى الآخر؛ لأن الاستدلال بالمنقولات لا بدَّ فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعًا إلا إذا استند إلى النقل.
فأما الضرب الأول: فالكتاب والسنة، وأما الثاني: فالقياس والاستدلال، ويلحق بكل واحدٍ منهما وجوه؛ إما باتِّفاق، وإما باختلاف، فيلحق بالضرب الأول الإجماعُ على أي وجهٍ قيل به، ومذهبُ الصحابي، وشرْعُ مَنْ قبلنا؛ لأن ذلك كلَّه وما في معناه، راجعٌ إلى التعبُّد بأمر منقول صرف، لا نظر فيه لأحد.
ويلحق بالضرب الثاني: الاستحسان والمصالح المرسلة، إن قلنا: إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول، إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية، حسبما يتبيَّن في موضعه من هذا الكتاب".
إن الإمام الشاطبي رحمه الله يجعل من خلال كلامه هذا من النص الشرعي مركزًا لاستنباط الأحكام الشرعية، ومن العقل رُوحًا للإنتاج الفقهي، فالنقل النص الشرعي لا غنى له عن العقل؛ فَهْمًا، وتدبُّرًا، ونظرًا، واستنباطًا، وكذلك الأحكام المرسلة عن النص الشرعي الناتجة عن العقل المجرد، لا اعتبار لها في ميزان الشرع، فلا عبرةَ بالأحكام المرسلة عن الدليل الشرعي، "ولا عمل بالنصِّ دون نظر العقل؛ بل إنه في غياب العقل يُرفَع التكليف، ولا نظرَ كذلك للعقل دون استهداء بنور النص"؛ إذ من أمحلِ المحال أن يتوصَّل العقل بمفرده إلى مرادات الله تعالى وأحكامه دون الاستنجاد بالنقل، وإلا ظلَّ يَسرَحُ في عالم الوهم والخيال والأساطير، والخرافات التي ما أنزل الله بها من بيِّنة ولا سلطان؛ وهذا يعني أن النقل والعقل مرتكزان أساسيان في التفقُّه، واستخراج الأحكام الشرعية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن من موارد الأحكام الشرعية النقلية، ما ينعدم دور العقل فيها، أو تضيق مساحتُه فيها على الأقل؛ كمورد القرآن الكريم، فالقرآن الكريم لا مجالَ للعقل فيه على مستوى ثبوته، فدوره فيه يقتصر على التدبُّر والنظر، والبيان، والاستنتاج، والاستنباط فقط، أما دوره في باقي الموارد الأخرى، فمتَّسِعٌ جدًّا؛ يشمل النظر في النص السنة النبوية وآثار الصحابة والإجماع؛ من حيث الثبوثُ أولًا، ومن حيث الدلالة ثانيًا، ومن حيث ومن حيث...
إننا إذا استوعبنا دور كلٍّ من العقل والنقل في استنباط الأحكام الشرعية، سنتجاوز بدون شك ثنائية النقل والعقلَ، وأيهما أقدس؟
والحمد لله بدءًا وختامًا.