السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رمضان كريم علينا وعليكم
وكل عام وانتم بخير
خطبة اليوم الثامن من رمضان بعنوان....
(الموت الابيض)
الحمد لله لم يزل عليّا، ولم يزل في علاه سميّا، قطرة من بحر جوده تملأ الأرض ريّا، نظرة من عين رضاه تجعل الكافر وليّا، الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًا والنار لمن عصاه ولو شريفًا قرشيًا، أنزل على نبيه ومصطفاه قولاً بهيًا ? تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم : 63]
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي
وكم أمر تساء به صباحا فتأتيك المسرة ُبالعشي
وكم يسر أتي من بعد عسر ففرج كربة القلب الشجي
إذا ضاقت بك الأحوال يوما فلذ بالواحد الفرد العلي
ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما جرا أثواب الحرير وما مشى التاج من فوق الجبين مرصعًا
جاءت له الدنيا فأعرض زاهدا يبغي من الأُخرى المكان الأرفعا
من ألبس الدنيا السعادة حلةً فضفاضة لبس القميص مرقعا
و هو الذي لو شار نالت كفه كل الذي فوق البسيطة أجمعا
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ? [آل عمران: 102 ].
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ? [النساء: 1].
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ? [الأحزاب: 69-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثاتها بدعة وكل بدعة ضلالة ،وكل ضلالة في النار.
أمة الإسلام حديثا اليوم عن نوع من أنواع الموت قد كثر في الآونة الأخيرة يختطف الأصحاء والأقوياء الشباب والفتيات فهو لا يفرق بينهم كثرت سهامه وعظم شانه فما هو الموت الأبيض؟
ولماذا سمي بالموت الأبيض؟
وهل الموت الأبيض محمود أو مذموم؟
وما الجواب على كل مسلم ومسلمة أن يقوم به استعدادا للموت الأبيض؟
أعيروني القلوب والأسماع
العنصر الأول: ما هو الموت الأبيض؟
اعلموا عباد الله أن الموت أنواع عديدة ذكرها العلماء وأهل اللغة منها الموت الأبيض.
يقول ابن الأَعرابيّ: يُقَال لِلْمَوْتِ الفَجْأَةِ: المَوْتُ الأَبْيَضُ، والجَارِفُ، واللاَّفِتُ، والفَاتِلُ.
يُقَال: لَفَتَهُ الموْتُ، وفَلَتَهُ، وافْتَلَتَهُ، وهو الموْتُ الفَوَاتُ (والفُوَات) وهو أَخْذَةُ الأَسَفِ، وَهُوَ الوَحِيُّ . والموتُ الأَحْمَرُ: القتلُ بِالسَّيْفِ، والموتُ الأَسْوَدُ: هو الغَرَقُ والشَّرَقُ، وفي الحديث: (أَنَّ رَجُلاً أَتاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُها، فمَاتَتْ ولم تُوصِ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ فقالَ: نَعَمْ.
قال أَبو عُبَيْدٍ: افتُلِتَتْ نَفْسُها: يَعْنِي ماتَتْ فَجْأَةً ولم تَمْرَضْ فَتُوصِيَ، ولكنها أُخِذَتْ نَفْسُها فَلْتَةً. يقال: افْتلَتَهُ، إِذا اسْتَلَبَه.
العنصر الثاني: لماذا سمي بالأبيض
فإن سألتم عباد الله ما هي العلة التي من أجلها سمي بالموت الأبيض؟
فإن للعلماء في ذلك قولان:
1- أنه سمي بالأبيض لأنه لم يكن قبله مرضا يغير لون الإنسان
يقول الدكتور جواد علي: "الموت الأبيض" و"الموت الأحمر". الأبيض الفجأة، أي ما يأتي فجأة، ولم يكن قبله مرض يغير لونه. والأحمر الموت بالقتل لأجل الدم.
2- القول الثاني أنه سُمي أبيض لأنه خلا من التوبة والوصية
البياض معنى البياض فيه خلوُّة عما يُحدثه من لاُيغافص؛ من توبه واستغفار وقضاء حقُوق لازمة وغير ذلك من قولهم: بيَّضتْ الإناء إذا فرَّغته وهو من الأضداد. عليكم بالْحجَامة لا يَتَبَيغُ بأحِّدكم الدَّم فَيقْتَلُه.
العنصر الثالث: أقول العلماء في موت الفجأة
عباد الله للعلماء في موت الفجأة أو الموت الأبيض أو موت الفوات قولان:
القول الأول انهم يكرهون الموت الأبيض:
فها هو الإمام الأحمد - رحمه الله - يكره موت الفوات.
فقد روي عن الإمام أحمد قال: ((أكره موت الفوات))، وورد في ذلك حديثنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه ضعيف.
والعلة في الكراهية الخوف حرمان الوصية، وفوات الاستعداد للمعاد بالتوبة وغيرها من الأعمال الصالحة.
قال ابن بطال: وكان ذلك والله أعلم لما في موت الفجاءة من خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة.
وذلك لأن الإنسان في صحته يأمل حياة طويلة، ويتهاون بكتابة الوصية وما له وما عليه مع أن ذلك مندوب مؤكد، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" .
"والشيء الذي حث على كتابته مثل الأمانات والديون والأوقاف وكذلك وصيته ووصايا أبويه إذا كانت على يديه، فيكتب ما يخرجه من ماله، ويكتب مصارفه الذي يصرف فيها، ويكتب الناظر عليه والوكيل، ويكتب الديون التي في ذمته، والديون التي له مثلاً، ويكتب الحقوق والأمانات التي عنده، ويكتب الأشياء التي قد يجهلها غيره وهو يعلمها من الأملاك أو نحو ذلك، حتى لو فجأة الموت لم يكن مفرطاً، بل وجد ما عنده مكملاً، أما لو فرط ومات فجأةً بقيت ذمته مشغولة، وبقيت حقوق الناس وأماناتهم عنده وديونهم في ذمته؛ لأن الورثة قد لا يعلمون شيئاً عن ذلك، فيقتسمون ما خلف من الأموال، وقد يكون بعضها أو أكثرها لغيره، فيأكلون ما لا يستحقون، وسبب ذلك تفريطه هو حيث لم يثبت ما عنده من الأمور.
عن عبيد بن خالد، رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في موت الفجأة: "أخذة أسف".
عن طلحة، عن تميم بن سلمة، قال: "مات منا رجل بغتة، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخذة غضب، فذكرته لإبراهيم، وقل ما كنا نذكر لإبراهيم حديثا إلا وجدنا عنده فيه، فقال: كانوا يكرهون أخذة كأخذة الأسف".
ولأن المصيبة تكون وقعها على الأهل والأصحاب كبيرة فربما جرهم ذلك إلى السخط وإلى أعمال الجاهلية.
القول الثاني: الموت الأبيض راحة للمؤمن:
وذلك الأن المسلم يستريح من عناء الدنيا ويخرج من سجنها عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: سألت عائشة عن موت الفجأة، أيكره؟ قالت: لأي شيء يكره؟ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "راحة للمؤمن وأخذ أسف للفاجر".
(موت الفجأة راحة للمؤمن) أي المتأهب للموت المراقب له فهو غير مكروه في حقه بخلاف من هو على غير استعداد منه كما أشار إليه بقوله (وأخذة أسف للفاجر) أي الكافر أو الفاسق لما ذكر وقد مات إبراهيم الخليل صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بلا مرض كما بينه جمع وقال ابن السكن الهجري توفي إبراهيم وداود وسليمان عليهم السلام فجأة قال: وكذلك الصالحون وهو تخفيف عن المؤمن.
قال النووي في تهذيبه بعد نقله ذلك: قلت هو تخفيف ورحمة في حق المراقبين وقال في الإحياء: وهو تخفيف إلا لمن ليس مستعدا للموت لكونه مثقل الظهر.
العنصر الرابع صور موت الأبيض:
عباد الله: وقد كثرت في الآونة الأخيرة تلك الظاهرة الموت فجأة وله صور عديدة نذكر منها:
بالسكتة القلبية، بأن تتوقف حركة القلب، ويحصل بعدها الموت في تلك اللحظة، ولا يتمكن الأهالي من العلاج ولا من استدعاء الأطباء، لحصول تلك السكتة بغتة بدون مقدمات آلام أو أمراض، ومن صورها الغشية والإغماء الذي يحصل بعده خروج الروح، يحصل الموت فجأة، ولا يكون هناك مقدمات ولا علامات قبل هذه الغيبوبة، فتحصل الوفاة في تلك اللحظات.
• ومن الصور ما تكاثر من الحوادث المرورية للسيارات، والتي يحصل بسببها موت العديد من أفراد وجماعات، وذلك بسبب تهور بعض السائقين وركوبهم الأخطار، وتعرضهم لأسباب الحوادث، فتارة بالسرعة الجنونية، والتي يكون من آثارها حوادث الانقلاب والاصطدام، وينتج عن ذلك زهوق أرواح في تلك اللحظة، أو الموت دماغيًا زيادة على الخسائر الفادحة بالجراحات وإتلاف السيارات وما أشبهها، وأحيانًا يكون بسبب غلبة النوم والنعاس على قائد السيارة، مما يحصل بسببه الكثير من الحوادث باصطدام أو انقلاب أو خروج عن الطريق ووقوع في حفر أو مرتفعات، أو اصطدام بحجارة أو حيطان أو صبات في حواجز الطرق، وتارة يكون بسبب خلل في السيارات، كما يكون في انفجار العجلات، والتي تسمى كفرات، أو اختلال الأذرعة أو الفرامل، ويحصل بسبب ذلك اختلال في السير، وارتباك في التصرف يكون ذلك سببًا في الانقلاب وحصول الوفيات.
ومن صور موت الفجأة ما يحصل بالقتال مع اللصوص والصائلين وقطاع الطرق، الذين يعرضون للناس، ومعهم أسلحة فتاكة، ويطلبون منهم أخذ ما معهم من الأموال أو فعل الفاحشة بالنساء والصبيان، وإذا حصلت مقاومة كان هناك قتل وإطلاق للنار، وسفك للدماء وذلك من أسباب موت الفجأة.
• الموت الأبيض من علامات الساعة:
واعلموا عباد الله: أن الموت الأبيض من علامات الساعة كما اخبر بذلك النبي – صلى الله عليه وسلم - فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة، أن يرى الهلال لليلة، فيقال: هو ابن ليلتين، وأن تتخذ المساجد طرقا، وأن يظهر موت الفجأة " .
العنصر الثالث التحذير من الغفلة الاغترار بطول الأمل
أيها الأحباب: الموت يتخطف الشباب والأصحاء من حولنا فما أحوجنا إلى اليقظة وما أحوجنا إلى الاعتبار
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطا وتلحق آخرنا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي ولأموال أتركها خلفي وأُخرج من دنياي عريانا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
نزداد حرصا وهذا الدهر يزجرنا كأن زاجرنا بالحرص أغرانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن كانت تخر له الأذقان إذعانا
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلوا مدائن قد كان العز مفرشها واُستفرشوا حفرا غبرا وقيعانا
يا راكضا في ميادين الهوى فرحا وغافلا في ثياب الغي نشوانا
قضى الزمان وولى العمر في لعب يكفيك ما قد مضى قد كان ما كان
جعل الله - سبحانه وتعالى - الغفلة سببًا من أسباب الحسرة والندامة يوم القيامة، يقول تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [مريم: 39].
وبيَّن أنها سبب نسيان الآخرة وسبب الاغترار بالدنيا، قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 1-3].
وجعل الله عقوبة أهل النار، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8].
قال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: (ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمِّل الدنيا والموت يطلبه! وغافل ليس يُغْفل عنه! وضاحكٌ مِلءْ فيه ولا يدري أساخط ربُّ العالمين عليه أم راضٍ؟!)
يا غافلاً عن ساعة مقرونة بنوادب وصوارخ وثواكل
قدِّم لنفسك قبل موتك صالحًا فالموت أسرع من نزول الهاطل
حتّام سمعُك لا يعي لمذكر وصميم قلبك لا يلين لعاذل
تبغي من الدنيا الكثيرَ وإنما يكفيك من دنياك زاد الراحل
آي الكتاب تهزُّ سمعك دائمًا وتصم عنها معرضًا كالغافل
كم للإله عليك من نعم ترى ومواهب وفوائد وفواضل
كم قد أنالك من موانح طوله فاسأله عفوًا فهو غوث السائل
لا تحسبن الله تعالى غافلا عن فعلك وقولك أيها المذنب بل إن ذلك من الإمهال:
عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يُملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: ? وكَذلِك أَخْذُ رَبِّكَ إذا أَخَذَ القُرى وهي ظَالمة قوله لم يفلته أي لم ينفلت منه، ويكون بمعنى لم يفلته أحد أي لم يخلصه شيء.
أيها الصحيح المعافى، أيها القوي الفتي، أيها الشاب، أيتها الفتاة.. احذروا من طول الأمل لأنه ما طال أمل إنسان إلا ساء عمله وعصى ربه وضيع أخرته.
علم أن الذي حال بين الناس وبين التوبة والصدق فيها هو طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال الله: ? ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
وقال سبحانه: ? أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ [الشعراء:205 -206].
وقال سبحانه: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ ? [المؤمنون:55 -56].
اعلموا أن الذي يحول بينكم وبين التوبة إنما هو طول الأمل إن الموت قريب، والعمر مهما طال فهو قصير، والدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، فاختر لنفسك النهاية التي تتمناها. أن الذي حال بين الناس وبين التوبة والصدق فيها هو طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال الله: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
وقال سبحانه: ? أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ [الشعراء:205 -206].
وقال سبحانه: ? أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55 -56].
اعلم أن مما يعينك على التوبة والإسراع فيها والمبادرة إليها هو ذكر الموت وساعاته.
إن الموت قريب، والعمر مهما طال فهو قصير، والدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، فاختر لنفسك النهاية التي تتمناها.
لما حضرت حسان بن أبي سنان الوفاة قيل له: كيف تجدك؟ قال: بخير إن نجوت من النار، قيل له: فما تشتهي؟
قال: ليلة طويلة أصليها كلها.
ودخل المزني على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه فقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟!
فقال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى ربي سبحانه وتعالى وارداً، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أو إلى النار فأعزيها؟
ثم أنشد:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي علت الرجاء مني لعفوك سلماً
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ودوداً وتعفو منة وتكرماً
حقًا! قست القلوب! ورانَ عليها غطاء الذنوب!
نودِّعُ الأموات. والقلوب أموات!
نودِّع الأموات. ولا عبرة ولا عظَات!
نودِّعُ الأموات. ولا سؤال: أين القرار في النِّيران أو الجنَّات؟!
نودِّعُ الأموات. وها نحن قبل الممات أموات!
وكَمْ من صحيح باتَ للموتِ آمِنًا أَتَتْهُ المنَايَا بغَتةً بعدَمَا هَجَعْ
ولَمْ يستَطع إذ جَاءهُ الموتُ بغتةً فِرارًا ولا منه بقوَّتهِ امتَنَعْ
فأصبحَ تبكيهِ النِّساءُ مُقَنَّعًا ولا يَسْمَعُ الدَّاعي وإن صوتَهَ رفَعْ
ولا يتركُ الموتُ الغَنيَّ لمالِهِ ولا مُعْدمًا في الحالِ ذا حاجةٍ يَدَعْ
أخي المسلم:
لماذا أنت مصرٌ على ترك الصلاة؟
لماذا أنت مصرٌ على سماع المحرمات؟
لماذا أنت مصرٌ على الربا؟
لماذا أنت مصرٌ على قطيعة الأرحام؟
هل جاءتك براءة من النار؟
هل أنت تمتلك شهادة ضمان لدخول جنة الرحمن؟
يا غافلا وليس بمغفول عنه:
مَالي أرَاكَ على الذُّنوب مُواظبًا أأخَذْتَ من سُوء الحساب أمَانَا
لا تغفلَن كأنَّ يومَك قد أتى ولعلَّ عمركَ قد دَنَا أو حَانَا
ومضَى الحبيبُ لحَفْر قبركَ مُسْرعًا وأتى الصَّديقُ فأنذَر الجيرانَا
وأتَوا بغسَّال وجاؤوا نَحوَهُ وبَدَا بغسلِكَ ميتًا عُرْيَانَا
فَغُسلتَ ثم كُسيتَ ثوبًا للبِلَى وَدَعَوا لحَمْل سريركَ الإخوَانَا
وأتَاكَ أهلُكَ للوداع فودَّعُوا وجَرَتْ عليك دُمُوعُهُم غُدْرَانَا
فخفِ الإله فإنَّه مَنْ خَافَهُ سكنَ الجنانَ مُجاورًا رُضْوانَا
عمر بن عبد العزيز يتذكر الموت رحمه الله:
كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء كل ليلة، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة. .
أين الملوك ومن بالأرض قد عمروا قد فارقوا ما بنوا فيها وما عمروا
وأصبحوا رهن قبر بالذي عملوا عادوا رميما به من بعد ما دثروا
أين العساكر ماردت وما نفعت وزين ما جمعوا فيها وما ادخروا
أين العساكر ماردت وما نفعت وزين ما جمعوا فيها وادخروا
أتاهم أمر رب العرش في عجل لم ينجهم من أموال ولا نصروا
وكان عبد الرحمن بنُ يزيد بن معاوية خِلاً لعبد الملك ابن مروان، فلما مات عبدُ الملكِ ودفنَ وتفرق الناسُ عن قبرِه وقفَ عليهِ عبد الرحمن قائلاً: أنتَ عبدُ الملك، أنت من كنتَ تعِدُني خيرًا فأرجوك، وتتوعدُني فأخافُك، الآن تصبحُ وتمسي وليسَ معكَ من ملكِك غير ثوبك، وليسَ لك من مُلكِكَ سوى ترابِ أربعةِ أذرُعٍ في ذراعين، إنه لملكٌ هينٌ حقيرٌ وضيعٌ، أفّ ثم أفّ لدنيا لا يدومُ نعيمُها، ثم رجعَ إلى أهلِه فاجتهدَ وجَدَّ في العبادةِ، وعلم أنها الباقية، حتى كان كأنه شِنٌّ بالٍ من كثرة العبادة..
روى مسلم أن النبي قال: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصْبغ في النار صَبْغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب)).
يمر عمرو بن العاص رضي الله عنه بالمقبرة فيبكي، ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه: لم فعلت ذلك؟! قال: تذكرت قول الله: ? وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ: 54] وأنا أشتهي الصلاةَ قبل أن يحال بيني وبينها.
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر
وكم من صبِيٍّ يرتَجى طول عمره وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
ومن أسباب الوقاية من سوء الخاتمة الحذر من الغِرَّة أي: الاغترار.
يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل
الموت يأتِي بغتة والقبر صندوق العمل
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] قال الحسن رحمه الله: "إن قومًا ألهتهم الأمانيُّ بالمغفرة، حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل"، ثم تلا قوله تعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? [فصلت: 23].
وقال سعيد بن جبير: "الغِرَّة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية، ويتمنى على الله المغفرة".
دخل عبد الله بن الفضل على أبي حفص الشطرنجي يعوده في علته التي مات فيها. فأنشده قوله:
نعى لك ظل الشباب المشيب ونادتك باسم سواك الخطوب
فكن مستعداً لداعي الفناء فإن الذي هو آت قريب
ألسنا نرى شهوات النفو س تفنى وتبقى عليها الذنوب
وقبلك داوى المريض الطبيب فعاش المريض ومات الطبيب
يخاف على نفسه من يتوب فكيف ترى حال من لا يتوب
قال ابن المعتز عند موته:
يا نفس صبراً لعل الخير عقباك خانتك بعد طول الأمن دنياك
مرت بنا سحراً طير فقلت لها طوباك يا ليتني إياك طوباك
إن كان قصدك شرقاً بالسلام على شاطئ الفرات أبلغي إن كان مثواك
من موثق بالمنايا لا فكاك له يبكي الدماء على إلف له باكي
أظنه آخر الأيام من عمري وأوشك اليوم أن يبكي له باكي
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
|