ليس للإنسان دار يقيم بها ويستقر فيها إلا الدار الآخرة، وأما هذه الحياة الدنيا فإنها رحلة قصيرة تنتهي بالموت، لتبدأ بعدها الحياة الحقيقة. إذا نظر المرء إلى هذه الدنيا وجدها سريعة التصرم، كثيرة الآلام، متقلبة الأطوار، لا تستقر على حال. ومن ناحية أخرى يجدها تقف عائقًا في طريق الآخرة لمن مال إليها، وفتنته زخارفها، وانحرف قلبه إلى زينتها، فحينها يتعامل معها كأنه خالد فيها، غير منتقل عنها، ولا محاسب على عمله عليها؛ ولهذا جاءت المواعظ القرآنية والنبوية محذرة من الركون إلى الدنيا، والمنافسة عليها، ومبينة قلتها وزوالها، وحقيقتها التي لا يراها عمي البصائر عمش العيون، الذين قيدتهم أعراض الدنيا وألقت بهم في سجون الغفلة. يقول تعالى: ﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]. وقال: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء:77]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم".
قال الشاعر:
إني رأيت عواقب الدنيا فتركت ما أهوى لما أخشى
فكرت في الدنيا وعالمها فإذا جميع أمورها تفنى
وبلوت أكثر أهلها فإذا كل امرئ في شأنه يسعى
أسنى منازلها وأرفعها في العز أقربها من المهوى
تعفو مساويها محاسنها لا فرق بين النعي والبشرى
إن من أحسن الأدوية الواعظة من الركون إلى الدنيا والفتنة بها: أن يتذكر الإنسان الموت، ذلك المصرع الذي لا مفر منه، وذلك المصير الذي لابد لكل حي من الوصول إليه، فمن بقي الموت في ذهنه حاضراً زهد في الدنيا، وأقبل على الآخرة، وتخفَّف من الذنوب، وأكثر من القربات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات - يعني: الموت) .
وذِكرُ هذه الحقيقة ليس واعظًا للمسلمين فقط، بل يمكن أن تؤثر في غير المسلمين، أو الذين لهم أصول إسلامية طمستها الحضارة المعاصرة وإغراءاتها الفاتنة.
إدي ريتزوفيك، رجل أمريكي مقدم البرنامج التلفزويني دين توك شو، وهو مدرب لعبة جريسي جيجيتسو البرازيلي، كان له قصة مع موعظة الموت، التي أنقذته من أمواج الحياة المنحرفة إلى معرفة حقيقية الدنيا حتى ركب سفينة الخوف فوصل بها إلى شاطئ الإسلام والاستقامة.
أخبر أن أجداده كانوا يمارسون الإسلام، ولكنْ والداه لم يكونا كذلك، فكان إذا سافر إلى جدته ربما صلى معها، لكنه عندما يعود إلى أهله في شيكاغو يذهب كل ذلك. وكان شابًا أمريكيًا يعيش طيش الشباب الأمريكي ويحاول أن يحصل على كل ما يستطيع من الرغبات.
بدأ الاستيقاظ عنده حينما زار عمه للعلاج الطبيعي، فكانا يتكلمان عن أشياء مختلفة، ومما ناقشاه مسألة الموت.
يقول عن مراحل رحلته الأولى إلى الحق:
" من الأشياء التي أتذكرها بوضوح أثناء رحلتي هي قصة سمعتها من أختي، وكانت تحكي عن شاب من البوسنة ذهب ليدفن أمه، وبعدما انتهى من الدفن وذهب اكتشف أنه فقد محفظته أثناء الدفن وبها أوراقه، ولم يجد تفسيراً غير أنه لما انحنى سقطت محفظته إلى القبر، ولكن حين فتح القبر وجد شيئًا أرعبه، وعندما سمعت القصة قلت لهم: هذه حقيقة لا يمكن إنكارها فنحن أيضًا سندخل القبر. نعم، إنها لحظة مخيفة جداً، وقد أيقظت شيئًا بداخلي، هذه القصة دفعتني وأرعبتني، ثم رجعت إلى عمي لأقول له: أتعلم، حكت لي أختي قصة، وأنت دائمًا ما تذكرني وتنصحني بهذا الأمر، وعندما سمعها رجع إلى مكتبته وأحضر لي كتابًا، وكان هذا الكتاب يتحدث عن الحياة والموت والآخرة، فقرأته كاملاً، وأخافني كثيراً، وفي يوم من الأيام كنا في مصعد فشعرت بالهلع فقلت: هذا هلع من مصعد، فماذا عن لحظة القبر التي سنعيشها جميعًا؟ وهناك أردت أن أعلم ما سيحدث بعد الموت. وبعد هذا قرأت القرآن وكتبًا كثيرة".
وأما عن الآية التي أثرت عليه فيقول: " هناك آية من سورة الأنعام وصلت قلبي وأثرت علي في رحلتي هي قوله تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام:32]. فأنا كنت أحاول أن أعيش هذه الدنيا بكل ما فيها، ولكن مع ذلك لا شيء يشعرني بالسلام والرضا، وأرى ما يتكلم عنه الله في هذه الآية، كل ما يحاول الناس فعله هو التسابق لأعلى المناصب؛ ليتفوق بعضهم على بعض، وترى كيف ينظر الناس للمشهورين ويتخذون منهم قدوة، فهذا كل ما نحن عليه: الماديات التباهي التفاخر، وقد يكون لديك كل المال، ولكنك مفلس الروح والقلب، ولكن الحمد لله الذي هداني للإسلام حيث الرضا الحقيقي والسعادة الكاملة".
وأما عن أبيه فإن أباه كان عنده ملهى ليلي، فلما استقام ابنه (إدي) صار مستقيما كذلك وأطلق لحيته، يقول الأب: "كان بيتي لا يصلي فيه أحد خمس مرات في اليوم، فأتاني (إدي) في يوم من الأيام وأيقظني وقال لي: هيا بنا إلى المسجد، ومن المفاجأة أني توقعت شيئًا ما حدث، فقال: هيا بنا لصلاة الفجر، فقلت: هذا رائع جداً، هذا حلم.. ولكن أنا رأيت رحمة الله، واليوم هو شيخي، نعم، أشعر أن التغيير كان جيداً ليس فقط لإدي ولكن لعائلتنا كلها، فأنا أغنى وأسعد إنسان على وجه الأرض اليوم، فهكذا أشعر والله، بمعرفتي لله أصبحت أغنى من أي شخص" ويقول أخو إدي: " حل بيننا الأمان وقلت المشاكل معنا جميعاً، بشكل عام، إنها نعمة نشكر الله تعالى عليها".
ويقول إدي عن رسالته المستقبلية الخاصة: " فأنا أنظر لأبنائي وأرغب أن أساعدهم في الطريق المستقيم وأن أوجههم إذا ضلوا"
وأما عن القرآن فيقول: " لم أر كتابًا مثله فكل الكتب يمكنها رميها في البحر، أما القرآن فهو الكتاب الوحيد الذي حفظه ملايين من الناس".
فسبحان الله تعالى الذي يهدي من يشاء متى شاء بأي سبب شاء! وما أحسن أثر آية سورة الأنعام على قلبه وهي تصف الدنيا على حقيقتها، وتقارن بينها وبين الآخرة، وتبين الفائزين في الآخرة وهم أهل التقوى، فهل من عاقل يتدبر هذه القضية فيزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة؟
يقول تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام:32]. يعني: " وما الحياة الدنيا في غالب أحوالها إلا غرور وباطل، والعمل الصالح للدار الآخرة خير للذين يخشون الله، فيتقون عذابه بطاعته واجتناب معاصيه. أفلا تعقلون -أيها المشركون المغترون بزينة الحياة الدنيا- فتقدِّموا ما يبقى على ما يفنى؟".