فواصل لا تواصل
عندما جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسترشده ليعلمه أمور دينه، فأعرَض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدَّ عنه رغبةً في إسلام بعض سادات قريش، فأنزَل الله قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [عبس: 1 - 4].
فكان لهذا الرجل الأعمى مكانةٌ خاصة عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما رآه قال: ((مرحبًا بالذي عاتَبني فيه ربي)).
فالعتاب له أثرٌ قوي في محاسبة النفس ومراجعتها لمعرفة أخطائها، حتى ترجع عن غيِّها وعُتوِّها وخطئها إن كانت مخطئة.
ومن معاني العتاب تذكيرُ المعاتب بنعم نَسِيَها، أو لومه على فعلٍ لا يُرضى فعلُه، أو توبيخه على تصرُّف حدَث منه، ولا يكون إلا مِن مُحِبٍّ لحبيبه.
والعتاب له منافعُ إذا كان لمصلحة شرعية، وقد عاتَب الله نبيَّه في أكثر من آية؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التحريم: 1]، وقوله تعالى: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 43].
وقوله تعالى: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ [الأحزاب: 37]، إلى آخر الآيات الواردة في ذلك.
هل هو تواصل أم فواصل؟
للأسف الشديد مِن الناس مَن اتخذ العتاب سجيةً له ومَطيَّةً يَمتطيها إلى ما يريد، ويَستعطف به قلوبَ الناس لتحقيق مآربه، حتى زاد الناس منه اشمئزازًا ونفورًا.
وللأسف الشديد فإن بعض الناس أصبَح العتاب عنده وسيلةَ تواصلٍ أساسية في حياته مع الآخرين، مما زادَهم منه نفورًا وخوفًا وحذرًا في تعامُلاتهم معه، علمًا بأنه قد يكون العاتب مصيبًا في عتابه وقد يكون مخطئًا، وكما قال الشاعر:
عتبتُ على عمرو فلمَّا فقدتُه *** وجرَّبتُ أقوامًا بكيتُ على عمرو
فهذا الشاعر ربما أكثَر العتاب على عمرو، فلما فقَده وجرَّب غيرَه، ندِم حتى أدَّى به الندمُ إلى البكاء ، وكثير ما هم، مَن يفعل هذا، فيُكثِر العتاب، ومهما أبديتَ له مِن الاعتذار، فإنك تجده مُصِرًّا على عادته التي تعوَّد عليها، وكما قال الشاعر:
أتَهجُرني وما أسلَفتُ ذنبًا ويَظهُر منك زورٌ وازْوِرارُ
وتُعرضُ كلَّما أبديتُ عذرًا وكم ذنبٍ مَحاه الاعتذارُ
وتَخطُبُ بعْد ذلك صَفوَ وُدِّي فهل يُرضيك وُدٌّ مستعارُ
فلا واللهِ لا أَصفو لخِلٍّ سَجِيَّتُه التَّعتُّبُ والنِّفارُ
لا تَجرَحْ:
فإذا ابتُليتَ بهذا الداء، فاعلَم أنك لن تكون محبوبًا لمن يَعرِفك، فلا تَجرحْ مشاعر الآخرين بالمنِّ والأذى، واحذَر كلما عاتبتَ شخصًا أن تذكُرَ محاسنك ومعروفك فيه، ولا تَلُمْه أمام الناس، فهذا من أكبر الفواصل التي ستكون بينك وبينَه، وربما مدى الحياة، فكن مؤدبًا في عتابك ولومك مِن غير جرحٍ للمشاعر، وأن يكون على انفرادٍ مع الأدب في الخطاب وقلةٍ في العبارات.
وأخيرًا أقول لكل معاتبٍ: ارْبَأْ بنفسك فما تَزيدك كثرةُ العتاب للناس إلا بُعدًا، فلا تُكثرْ منه، فما أقلَّ نفعَه وأكثرَ مفاسدَه! وأخشى عليك أخي الحبيب أن تَخسَر أحبابك وأصدقاءك بكثرة عتابك المتواصل، فتبكيَ عليهم طويلًا!