وعَد الله سبحانه عبادَه الأبرار المتقين من الشهداء والصِّديقين بإظلالهم في ظلاله، وفي أكناف رحمته: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ﴾ [الرعد: 35]، وإن أهل جنته تبارَك وتعالى يتنعمون بظلال رحماته الوارفة: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ﴾ [النساء: 57]، وهذا يصدقه حديثُ النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ((يقولُ اللهَ عز وجلَ: أَعددتُ لعباديَ الصالحينَ ما لا عينُ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، واقرؤُوا إن شئتُم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]، وإن في الجنةِ لشجرةً يسيرُ الراكبُ في ظلها مائةَ عامٍ لا يقطعُها، واقرؤوا إن شئتُم: ﴿ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ﴾ [الواقعة: 30]، ولموضعُ سوطٍ في الجنةِ خيرٌ من الدنيا وما عليْها، واقرؤوا إن شئتُم: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]))؛ الراوي: أبو هريرة، المحدث: البغوي، المصدر: شرح السنة، الرقم: 7/ 537، خلاصة حكم المحدث: صحيح، رقم 67206، أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824).
وقال البغوي في شرح حديث السبعة: "قيل: في قوله: ((يُظلهم الله في ظلِّه))، معناه: إدخالُه إياهم في رحمته ورعايته، وقيل: المراد منه ظلُّ العرش"؛ شرح السنة: (21355).
وقال الحافظ ابن حجر عند شرح حديث السبعة: "قيل: المراد ظلُّ عرشه، ويدل عليه حديثُ سلمان عند سعيد بن منصور بإسنادٍ حسنٍ: ((سبعة يُظلهم الله في ظلِّ عرشه)).. (فذكر الحديث)، وإذا كان المراد ظلَّ العرش، استلزم ما ذكر مِن كونهم في كنَف الله وكرامته مِن غير عكس؛ فهو أرجحُ وبه جزَم القرطبي، ويؤيِّده أيضًا تقييدُ ذلك بيوم القيامة؛ كما صرَّح به ابنُ المبارك في روايته عن عبيدالله بن عمر، وبهذا يندفع قولُ مَن قال: المراد ظل طوبى أو ظل الجنة؛ لأن ظلَّهما إنما يحصُل لهم بعد الاستقرار في الجنة، ثم إنَّ ذلك مشتركٌ لجميع مَن يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فَيُرَجَّحُ أنَّ المراد ظلُّ العرش"؛ فتح الباري، (21144 )، وهذا المعنى أيضًا تضمَّنته رواية البخاري رحمه الله عند الحديث عن كرامة الشهداء، والرحمات الربانية لهم، حينما بوَّب في صحيحه، فقال: باب ظل الملائكة على الشهيد، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه يومَ استشهاد والده، عن النبي صلى الله عليه وسلم - حديثًا عن كرامة إظلال الملائكة للصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن حرام - قال: "جيءَ بأبي يومَ أحدٍ وقد مُثِّلَ بِهِ، فوُضِعَ بينَ يدَي رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، وقد سُجِّيَ بثوبٍ، فجعَلتُ أريدُ أن أَكْشفَ عنهُ، فنَهاني قومي، فأمرَ بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فرفَعَ، فلمَّا رفعَ سمعَ صوتَ باكيةٍ، فقالَ: ((مَن هذِهِ؟)) فقالوا: هذِهِ بنتُ عمرٍو، أو أختُ عمرٍو، قالَ: ((فلا تبكي، أو فلِمَ تبكي؟ ما زالَتِ الملائِكَةُ تظلُّهُ بأجنحَتِها حتَّى رفعَ))؛ الراوي: جابر بن عبدالله، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح النسائي، الصفحة أو الرقم: 1841، خلاصة حكم المحدث: صحيح، رقم 33878.
قال الحافظ: مُحَصِّله أَنَّ هَذَا الْجَلِيل الْقَدْر الَّذِي تُظِلُّهُ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، لا يَنْبَغِي أَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ، بَلْ يُفْرَح لَهُ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ.
قال المهلب: هذا من فضل الشهادة وضع الملائكة أجنحتها عليه رحمةً له؛ شرح ابن بطال، (9/ 25).
وعن سلمان رضي الله عنه قال: (كانت امرأة فرعون تعذَّب، فإذا انصرفوا، أظلَّتها الملائكة بأجنحتها، وترى بيتها في الجنة وهي تعذَّب؛ سير أعلام النبلاء (1/ 552)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 206)، وصحَّحه الألباني في الصحيحة (6/ 7).
وعن أبي هريرة أن فرعون أوتدَ لزوجته أربعَة أوتادٍ في يديها ورِجليها، فكان إذا تفرَّقوا عنها أظلَّتها الملائكة، فقالت: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11]، فكشَف لها عن بيتها في الجنة؛ أخرجه أبو يعلى في مسنده (4 / 1521 - 1522)، وقال: "أخرَجه أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة"؛ وصحَّحه الألباني في الصحيحة (2508)، وقد ماتت شهيدة رضي الله عنها، قتلَها فرعون.
ولَمَّا أحسَن هؤلاء الشهداء في توجُّههم إلى مقصدهم في طاعة الرحمن جل جلاله، كافأهم ربُّهم تبارك وتعالى بالظلال، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المرسلات: 41 - 44].
وعلى النقيض من ذلك كان التقريع الإلهي لأولئك الذين تنكَّبوا صراط الله المستقيم بقوله: ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ﴾ [الواقعة: 41 - 44]، وقوله جلَّت قدرتُه وعظمتُه: ﴿ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ﴾ [المرسلات: 30]، فعن مجاهد قوله: ﴿ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ﴾، قال: دُخان جهنَّمَ.
فلا بكاء على الشهداء إلا بكاءُ الرحمة والفِراق، وهم الذين كانوا يردِّدون ونردِّد خلفهم:
نلوذُ بِمَن أرانا الحقَّ حقًّا ومَن بِظلالِ رَحمته احْتَوَانا
أَمَا واللهِ لا نَخشى عدوًّا يَظَلُّ برغم قَسوته جَبَانَا
زرَعنا للبطولةِ جانحيها فطارَتْ نَحوَنا تَحمي حِمانَا