#منـــــقـــول
~~~~~~~~~~~~
لم يقتصر الأمر على منظر ذلك العجوز الذي يجعل منه - في نظري أنا على الأقل - جنيًّا خرج من عمق التاريخ، من حكايات ألف ليلة وليلة، واستوطن أحد البيوت المُتهالكة، في حارتنا... ما لفت انتباهي أن أهل الحارة يتجنَّبونه، وقد عَزَيْتُ ذلك إلى أن هذا الرجل يُثير الخوف في نفوس الكبار أيضًا، فكيف بطفلة صغيرة مثلي؟ فشَعرُه طويل أشعث طال حتى بلغ كتفيه، ولحيته كثَّة امتدَّت بفوضى عارمة حتى أسفل مَعِدته، ومشيتُه غريبة يبدو خلالها وكأنه يجرُّ ظهره المنحني أمامه جرًّا، أضف إلى ذلك كله تمتماته غير المفهومة التي كان يتلفَّظ بها في اللحظات القليلة التي كنت أشاهده فيها في الشارع ذاهبًا إلى الدكان لشراء احتياجاته، أو متجهًا إلى حاوية النفايات يَقذف فيها محتويات سطل كبير كان يُثير الريبة في نفسي كما جميع أطفال الحي، أكثر من منظر حاملِه.
كنتُ أُطلق لخيالي العنان، فيصور لي أشياء تُثير الرعب في النفس، تجعل من ذلك العجوزِ الغولَ الذي لم يتمكَّن الشاطر حسن مِن التخلُّص منه وتخليص القرية مِن شروره، وزادت حدَّة الأسئلة التي تفرض نفسها عليَّ عن ماهية هذا الرجل، ونمَتْ تلك التصوُّرات وأينعَت، وأورقت وأثمرت، عندما أصبحتُ أسمع أحيانًا صراخ أناس مُصابين بالهلَع يَنطلق من بيت العجوز، فرجَّح لي خيالي أنه يقوم بذبحهم ليأكلَهم أو شيء من هذا القبيل، وأعتقد أنه السبب نفسه الذي حدا بجميع أطفال الحي أن يَخافوه مثلي.
أما صِبْية الحارَة الكبار، فكانت لهم مع هذا العجوز حكاية مختلفة؛ ففي أيام الصيف الحارَّة ولأن مُعظم سقف البيت الذي يسكنه من الصفيح الذي يُصبح كالقِدْر يَغلي بمحتوياته، كان العجوز يُمضي وقته بشورت من القطن الملون وقميص داخلي يَكشف كتفيه وساعديه، ولا يتورع عن الوقوف أمام باب البيت بهذه الملابس، وعندما يشعر الشباب الذين أصابهم طول العطلة الصيفية وقلَّة المثيرات بالملل، كانوا يُحضرون أكوامًا من الحصى ويقذفونها على سقف الصفيح، فيرتفع صراخ العجوز من الداخل طالبًا منهم الكف عن إيذائه، وترتفع وتيرة الشتائم المُنطلقة من الداخل بازدياد حدَّة قذف الصفيح بالحصى، وما هي إلا دقائق حتى يَحلَّ صمت مُميت بالحي وتغدو شوارعه خاليةً من البشر تمامًا، وكأن وباءً قد ألمَّ بالحي وأهله وأجبرهم على الرحيل، كنتُ أسمع حينها أن العجوز قد استخدمَ سلاحه الفتاك ضد من يقومون بمُشاكسته، ما كان يبثُّ مزيدًا من الرعب داخلي... وعلمتُ بعد سنوات عدَّةٍ تفاصيلَ ذاك السلاح الذي يُجبر جيش صبية الحارة على الفرار من وجهه والاختفاء عن الأنظار.
"أبو سهام الغزاوي" هذه التسمية التي كنا نُطلقها على ذلك العجوز، أكان مِن غزة أم لا، أم له ابنة اسمها سهام أم لا؟! هذا ما لم يكن لي علم به! كانت جدَّتي تروي عنه الكثير من القصص التي كثيرًا ما عجزتُ عن نوم الليل الذي أعقب سَماعي لإحداها، والآن وبعد مرور سنوات طويلة لا أدري إن كان أبو سهام لا يزال حيًّا يُرزق؟ أغدو غير متأكِّدة إن كانت تلك الحكايات التي كان يَتداولها الجميع عنه صحيحة، أم أنها مجرَّد تلفيق كان الغرض منه إشباع الفضول الذي يحوم حول الرجل وسلوكياته الغريبة؟!
بعد أن كبِرت ونضجتُ وزاد إدراكي ومعارفي، أدركت أن أبا سهام لم يكن غولًا كما ظننت سابقًا، كما لم يكن شيطانًا من شياطين ألف ليلة وليلة، إنما هو مُشعوِذ، يلفُّ خصلًا من الشعر على أوراق يطويها بشكل غريب، ويكتب داخلها خطوطًا وكلمات لا يُمكن قراءتها، ويربط خيوطًا ويَعقِدها بطريقة غريبة على قِطَع من القماش المبللة بقطرات من الدم، ويَطلب ممَّن أتاه طالبًا مساعدته أن يضعها في أماكن غريبة كشقوق الجدران أو تحت عتبة الباب أو شيء من هذا القبيل، وكان يكتب على قشر البيض، ويصنع منه قلائد يضعها الناسُ في أعناق أطفالهم أو النساء الحوامل.
واتَّضح لي أن الصراخ الذي كنتُ أسمعه يَنطلق من بيته، هو صراخ المرضى المصابين بالأمراض العقلية الذين كانت عائلاتهم تحضرهم عنده ليخلِّصهم من مسِّ الشياطين (كما كان يدَّعي)، فيُقيِّد أيديهم وأرجلهم، ويُهمهم بطلاسمه وهو يضع يده على رؤوسهم، ثم يبدأ بضربهم ضربًا مبرِّحًا بعصا أو بفردة حذاء حتى يخرج الجنيُّ الذي يتلبسهم.
سألت جدتي ذات مرة: جدتي، لماذا كنتِ تَرْوين لي حكايات مُخيفة وغير صحيحة عن أبي سهام؟ أليس من الأفضل لو أنك أخبرتِني بحقيقة الرجل؟ أجابتني: لم أتوقَّع أنك ستفهمين الوضع، ولخوفي عليك، كان همِّي أن أُخيفك منه ومن كل ما يمتُّ له بِصِلة؛ حتى لا تَقتربي منه أو مِن بيته، وحتى تهربي من أمامه إن شاهدتِه في الشارع، كنتُ أخاف أن يُؤذيك، خاصة وأن ذكاءك وحيويتك كانا يَلفتان الانتباه إليكِ.
اعتقدَتْ جدَّتي المسكينة أن هذا الرجل يُمكنه أن يؤذيني، وتناسَت أن الله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، وأن المشعوذ لا يُؤذي إلا بأمر الله، ولا ينفع إلا بأمر الله أيضًا، ومن يتوجه لمُشعوذ وساحر وهو مكذِّب له لا تُقبل له صلاة أربعين يومًا، فكيف بمَن يَذهب لمُشعوِذٍ لإزالة ضرٍّ مسَّه وهو مؤمن بقدرته على إزالته، أليس هذا هو الشِّرك بعينه؟