الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فالحَسَد حَسْرةٌ على الحاسد، ورِفعةٌ للمحسود، ولا سيَّما إذا بغى عليه الحاسدُ، فإن الله تعالى ينتقم من الظالم، كما ذكر ذلك أهلُ العلم، والحَسَدُ مرضٌ عُضالٌ، ومن أشدِّ معاصي القلب، ومن أخلاق اليهود؛ كما قال الله تعالى عنهم: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 54].
والحَسَد يدلُّ على ضَعف إيمان مَنِ اتَّصَف به، وكراهيتِه لما أنْعَم الله على غيره من نِعَمٍ، وقد قتَل أحدُ ابني آدم أخاه حَسَدًا؛ لأن الله تعالى تقبَّلَ منه، ولم يتقبَّلْ من القاتل، وقد ألقى أُخوةُ يُوسُفَ عليه السلام به في البئر حَسَدًا؛ بسبب منزلته عند أبيهم ومحبَّتِه له، فالحَسَد مرضٌ غالبٌ، لا يَسلَم منه إلَّا القليلُ من الناس، كما ذكر ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعلى الإنسان مجاهدة نفسه في عدم الاتِّصاف به، والتخلُّص منه إن كان فيه، والله الكريم يُوفِّقه، ويُعينه متى ما كان صادقًا.
ومن طريف ما يُذكَر في قصص حَسَدِ الحُسَّاد ما ذكره الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه النافع: "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، قال: حَدَّثني يحيى بن يونس، قال: بلغني أن ثلاثةً اجتمعوا، فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حَسَدِكَ؟ قال: ما اشتهيتُ أن أفعل بأحدٍ خيرًا قَطُّ، قال الثاني: أنت رجلٌ صالحٌ، ولكنِّي ما اشتهيتُ أن يَفعَلَ أحدٌ بأحدٍ خيرًا قطُّ، قال الثالث: ما في الأرض خيرٌ منكما، ما اشتهيتُ أن يَفعل بي أحدٌ خيرًا قطُّ.
وذكر قصةً طريفةً ثانية تُوضِّح ما يبلغ الحَسَدُ بصاحبه، قال رحمه الله: قال ابن المبارك:
استُقضِيَ على مَرْو قاضٍ، وكان من أحْسَدِ الناس للناس، فلما كان في بعض الأيام رأيتُه واقفًا على دابَّتِه ينظُر إلى مصلوب، فلما خلوتُ به، قلتُ له: رأيتُكَ تنظُر إلى ذلك المصلوب، أفحسَدْتَه؟
قال: إي والله، حسدتُه على كثرة اجتماع الناس عليه.
قال كاتبُه: أسأل الله الكريم السلامة والعافية لي ولجميع إخواني المسلمين.
ويتولَّد من الحَسَد - وهو من آثاره - العين، فالعينُ حقٌّ؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن لا ينبغي أن يدخُلَ الإنسانُ في دائرة الأوهام، فيتوهَّم أن كل ما يُصيبه فهو عينٌ؛ قال العلامة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: الوهم له أثرٌ كبيرٌ في اعتلال الصحة واعتلال العقل أيضًا، وكثيرٌ من الناس يتوهَّم أنه مسحورٌ، أو أنه مُصابٌ بالعين، وليس كذلك؛ لكن لَمَّا كثُر التوهُّمُ والتخيُّلُ انفعَل في النفس، وظنَّ أنه حَقٌّ، وأنه مسحورٌ أو مُصابٌ بالعين.
وقال رحمه الله: كثُر في هذه الآونة الأخيرة أوهامُ الناس وتخيُّلاتهم بأن ما يُصيبهم هو عينٌ أو سِحْر، أو جِنٌّ، حتى لو أُصيب بعضُهم بالزُّكام، قال: إنه عينٌ، أو سِحْر، أو جِنٌّ، وهذا غلطٌ، فأعرِض أيُّها الأخ المسلم عن هذا كله، وتوكَّل على الله، واعتمِد عليه، ولا تُوسوس حتى يزول عنك؛ لأن الإنسان متى جعل على باله شيئًا شُغِل به، وإذا تغافَلَ عنه وتركَه، لم يُصَبْ به.
والناسُ يحتاجون إلى مَنْ يُبصِّرهم في أمور الحَسَد - العين - وخيرُ مَنْ يُبصِّرهم في هذا العلماءُ الربَّانيُّون، وعلى رأس أولئك في عصرنا: العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، فله كلامٌ عن الحَسَد والعين جمعْتُ ما تيسَّر لي منه، أسأل الله الكريم أن ينفع به الجميع، وأنْ يجعلَه خالصًا لوَجْهِه الكريم.
تعريف الحسد:
قال الشيخ رحمه الله: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التفسير الصحيح للحَسَد ليس أن يتمنَّى الإنسان زوال نعمة الله على غيره، ولكن التفسير الصحيح للحَسَد، هو أن يكره الإنسان ما أنزل اللهُ على غيره من الخير، سواء تمنَّى زواله أو لم يتمَنَّ، وهذا التفسير لشيخ الإسلام هو الأقرب.
حكم الحسد:
قال الشيخ رحمه الله: الحَسَدُ مُحرَّمٌ، ومن كبائر الذنوب.
تاريخ الحسد:
قال الشيخ رحمه الله: الحَسَد أصلٌ ثبت في بني آدم منذ نشؤوا، فأحَدُ ابني آدم عليه السلام قال لأخيه: لأقتلنَّكَ؛ لأن الله تعالى تقبَّل من أخيه، ولم يتقبَّل منه، وأخوه لم يفعل به شيئًا؛ ولكن أنْعَم الله تعالى عليه بنِعْمة القَبول، فحَسَده حتى هدَّده بالقتل: ﴿ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ﴾ [المائدة: 27]، فالحَسَد موجودٌ منذ وُجِد بنو آدم إلى أن تقوم الساعة، والله أعلم.
مضارُّ الحَسَد:
قال الشيخ رحمه الله: الحَسَدُ مضارُّه كثيرةٌ:
منها: أنه اعتراض على قضاء الله وقَدَره، وعدم رضا بما قدَّره الله عز وجل؛ لأن الحاسد يكره هذه النِّعْمة التي أنعم الله بها على المحسود.
ومنها: أن الحاسد يبقى دائمًا في قَلَقٍ وفي حُرْقة وفي نكَدٍ؛ لأن نِعَمَ الله على العباد لا تُحصى، فإذا كان كلما رأى نعمة على غيره حَسَدَه، وكرِه أن تكون هذه النِّعْمة، فلا بد أن يبقى في قَلَقٍ دائمٍ، وهذا هو شأن الحاسد، والعياذ بالله.
ومنها: أن الحاسد فيه شَبَهٌ من اليهود الذين يَحسُدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
ومنها: أن الحاسد - في الغالب - يبغي على المحسود، فيحاول أن يكتمَ نِعْمة الله على هذا المحسود، أو أن يُزيل نِعْمةَ الله على هذا المحسود، فيجمع بين الحَسَد وبين العدوان.
ومنها: أن الحاسد يحتقر نعمة الله عليه؛ لأنه يرى أن المحسودَ أكملُ منه وأفضلُ، فيَزْدَري نعمة الله عليه، ولا يشكُره سبحانه وتعالى عليها.
ومنها: أن الحَسَد يدلُّ على دناءة الحاسد، وأنه شخصٌ لا يحبُّ الخيرَ للغير، بل هو سافل، لا ينظر إلَّا إلى الدنيا، ولو نظر إلى الآخرة لأعرَض عن هذا.
دواء الحسد:
قال الشيخ رحمه الله: وقد أرشد الله تعالى إلى دواء نافع للحَسَد؛ فقال: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ﴾ [النساء: 32]، وقال بعدها: ﴿ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 32]، وهذا هو الدواء، فإذا أنعم الله تعالى على أخيك نِعْمةً، فلا تكره هذه النِّعْمة لأخيك، ولا تتمنَّ زوالها؛ ولكن قل: اللهمَّ إني أسألُك من فضلك، ويجوز أن تقول: اللهم أعطني أكثرَ ممَّا أعطيتَ فلانًا، تسأل الله تعالى أكثرَ مما أعطى فلانًا، فهذا مِن الدواء.
وقال الشيخ رحمه الله: ولهذا الحَسَد ما يقابله ويضادُّه - ولله الحمد - وهو الإيمان بالله تعالى وبقَدَرِه، وأن يعلم أن الله تعالى إذا أنْعَم على غيره نعمةً، فليس مُقتضى ذلك أن يُحرَم الحاسدُ هذه النعمة، فقد يَمُنُّ الله تعالى عليه بها، بل ربما يكون الحاسد في نعمةٍ أكبرَ وأعظمَ.
وقال الشيخ رحمه الله: وأما دواء الحَسَد فهو:
أن يعلم أن حسده لن يمنعَ فضلَ الله على المحسود أبدًا، ولو كان يمنع فضلَ الله عن المحسود، لكان كل إنسان يحسُدُ غيرَه.
أن يذكر عواقب الحَسَد وشُؤْمه وعقوبته، حتى يخشى هذا الشُّؤْم والعقوبة فيَدَعُه، فإن التفكُّر في مضارِّ العمل يُوجِب النُّفُور منه، ثم يُجرِّب إذا أحبَّ الخيرَ لغيره، واطمأنَّ لِما أعطاه الله، هل يكون هذا خيرًا، أو الخيرُ أن يتتبَّع نِعَمَ الله على الغير، ثم تبقى حُرْقة في نفسه وتسخُّطًا لقضاء الله وقدره؟ وليَخْتَرْ أي الطريقين شاء!
أسباب كثرة الحُسَّاد بين الناس:
قال الشيخ رحمه الله: ما كثُر الأمرُ في الناس في الآونة الأخيرة من السَّحَرة والحُسَّاد، وما أشبه ذلك، إلَّا بسبب غفلتهم عن الله، وضَعف توكُّلهم على الله عز وجل، وقلة استعمالهم للأوراد الشرعية التي بها يتحصَّنُون، وإلَّا فنحن نعلم أن الأوراد الشرعية حِصْن منيعٌ أشدُّ من سدِّ يأجوج ومأجوج، لكن - مع الأسف - فإن كثيرًا من الناس لا يعرفُ عن هذه الأوراد شيئًا، ومَنْ عرَف فقد يغفل كثيرًا، ومن قرأها فقلبُه غيرُ حاضرٍ، وكل هذا نقصٌ، ولو أن الناس استعملوا الأوراد على ما جاءت بها الشريعة، لسلِموا من شرورٍ كثيرةٍ.
العين من حسد الحاسد:
قال الشيخ رحمه الله: أصل العين من الحَسَد.
قال الشيخ رحمه الله: الحُسَّاد نوعان: نوعٌ يحسُدُ ويكره في قلبه نعمة الله على غيره؛ لكن لا يتعرَّض للمحسود بشيءٍ، تجدُهُ مهمُومًا مغمومًا من نِعَمِ الله على غيره، لكن لا يتعدَّى على صاحبه، والشَّرُّ والبلاءُ إنما هو بالحاسد إذا حسَد؛ ولهذا قال: ﴿ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5]، ومن حسد الحاسد: العين التي تُصيبُ المعان.
وقال رحمه الله: يُطلَق الحَسَد على آثاره وهو العين.
العين حقٌّ ثابتٌ شرعًا وحِسًّا:
قال الشيخ رحمه الله: العين حقٌّ ثابتٌ شرعًا وحِسًّا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾ [القلم: 51]، قال ابن عباس وغيره في تفسيرها: أي ليعينوك بأبصارهم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((العَينُ حَقٌّ، ولو كان شيءٌ سابَقَ القَدَرَ سَبَقَتْهُ العينُ، وإذا استُغْسِلتُم فاغسِلُوا))؛ رواه مسلم.
ومن ذلك ما رواه أحمد وابن ماجه أن عامر بن ربيعة مرَّ بسهل بن حنيف وهو يغتسل، فقال: "لم أرَ كاليوم ولا جِلدَ مُخبَّأةٍ!" فما لبثَ أنْ لُبِطَ به، فأُتِيَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: أدرك سَهلًا سريعًا، فقال: ((مَنْ تتَّهِمُون؟))، قالوا: عامر بن ربيعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((علامَ يقتُل أحدُكم أخاه؟! إذا رأى أحدُكم من أخيه ما يُعجِبُه، فَلْيَدْعُ له بالبركة))، ثم دعا بماء فأمَر عامرًا أن يتوضَّأ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه، وداخلة إزاره، وأمره أن يصُبَّ عليه وفي لفظ: ((يَكْفأ الإناءَ من خلفه))، والواقع شاهدٌ بذلك، ولا يمكن إنكارُه.
العين تخرج بغير اختيار من العائن وباختيار منه:
قال الشيخ رحمه الله: العين: أن يُصابَ الإنسانُ بنفسٍ خبيثة، تكون مملوءةً حَسَدًا، فيخرج من هذه النفس الخبيثة المملوءة حَسَدًا قوةٌ خفيَّةٌ تُصيب المعانَ كما يُصيب السَّهْمُ الرميَّة، وتأتي أحيانًا بغير اختيار من العائن، بل بمجرد ما يرى الشيء الذي يُعجبه ينطلق منه هذا السَّهْمُ، وأحيانًا تكون باختيار منه، ويتحكَّم فيها، حتى إن بعضهم يُخيِّر المعانَ، ويقول: ماذا تريد أن أصنع بك: كذا، أو كذا، أو كذا، أو كذا؟
العين قد تأتي من أحبِّ الناس للإنسان:
قال الشيخ رحمه الله: الحاسد إذا حَسَد العائن أيضًا خفي، تأتي العينُ من شخصٍ تظُنُّ أنه من أحبِّ الناس إليك، وأنت من أحبِّ الناس إليه، ومع ذلك يُصيبك بالعين.
الإنسان المُتدين قد يُصاب بالعين:
قال الشيخ رحمه الله: قد يُصابُ الإنسان بالعين في كل شيء، في كل نعمة؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5]، وفي الأمثال العامة المنتشرة: "كُلُّ ذي نعمةٍ محسودٌ"، فقد يُصاب الإنسان المتديِّنُ بالعين، ويضيقُ صدرُه بالعبادة، أو قد يُصاب بالعين، فينسى ما حفِظ، أو يُصاب بالعين، فلا يستطيع أن يحفَظ.
العين تُصيب بإذن الله، فالمُصاب به قد يموتُ وقد يمرضُ وقد يُجَنُّ:
قال الشيخ رحمه الله: الرُّوح الخبيثة تؤثِّر في هذا المحل الذي فيه النِّعْمة تأثيرًا مباشرًا، حتى إن بعضهم قد يُهدِّد الآخرين بالموت، وربما يُصيبه بالعين حتى يسقُط مغشيًّا عليه، وذاك الرجل العائن ذو الرُّوح الخبيثة مستريحٌ لا يُهِمُّه شيء من ذلك!
وقال رحمه الله: الحاسد، هذا الرجل - نسأل الله العافية - عنده كراهية لنِعَم الله على الغير، فإذا أحسَّ بنفسه أن الله أنْعَم على فلان بنِعْمة، خرَج من نفسه الخبيثة معنًى لا نستطيع أن نصِفَه؛ لأنه مجهول، فيُصيبُ بالعين مَنْ تسلط عليه، أحيانًا يموتُ، وأحيانًا يمرضُ، وأحيانًا يُجَنُّ، حتى الحاسد يتسلَّطُ على الحديد فيوقفُ اشتغاله، ربما يُصيبُ السيارة بالعين وتنكسر أو تتعطَّل، أو ربما يُصيبُ رافعة الماء أو حرَّاثة الأرض، المهم أن العين حقٌّ تُصيبُ بإذن الله عز وجل.
قصص عن الإصابة بالعين:
قال الشيخ رحمه الله: اعلم أن العين تُصيبُ كلَّ شيء، ومن ذلك: أنه مرَّ رجلٌ على سيارة - وذلك قبل أن تكثُر السيارات - مرَّ بقوم يشتغلون بالطين، وكانوا في البرِّ، فقال بعضهم لبعض: ليت هذه السيارة تتأخَّر إلى آخر النهار حتى نركب فيها إلى البلد، وقد مرَّ بهم بعد الظهر، فقال أحدهم وهو عائن: سيبقى إلى أن ندخل! فلما تجاوزهم قليلًا وقف، جاء ليُشغِّلها، فلم تعمَل، فنظر في المحرِّك وفي كل شيء، وما وجد فيها شيئًا، وإذا ركب ليُشغِّلها فلا تعمل، فلما انتهى هؤلاء مِن عملهم بعد العصر مَشوا، فمرُّوا على صاحب السيارة، فسألوه، وقالوا: تريد أن ندفعها معك وتُركِبنا معك إلى البلد؟ قال: نعم، فذهب العائن ونفخ في المحرِّك، وقال لأصحابه: ادفعوها وهي لا تحتاج إلى دفع؛ لأنه لَمَّا نفخ على المحرِّك زال كل شيء، فعمِلت السيارة.
وقال رحمه الله: أخبرني رجلٌ أن صاحبًا له أُصيب بعين إنسان، وبقي هذا الرجل الْمُصاب خمسة عشر يومًا لا ينام ليلًا، ولا يستريح نهارًا من عينه، وكانت له إبل، فضاعت إبلُه... وكان له صاحب فجاءه يَعُودُه، فقال: ما الذي أصابَكَ؟ قال: أصابني فلان، فذهب هذا الصاحب إلى العائن في الضُّحى، وقال له: مالك على فلان؟! ماذا تُصيبه؟! مُرِضَ بعينه، وضاعت إبلُه، ولكن اختَر إحدى ثلاث: إما أن نُصلِّي عليك العصر في الجامع ميتًا، وإما أن نحبسَكَ في بيتِكَ لا تخرج، وإما أن تُعطيني عهدًا بأنه من المكان الفلاني إلى المكان الفلاني لا يُصاب أحدٌ منهم بعين، فاختار الأخيرة ... ثم أخذ طاقيته، وذهب بها للمصاب، ووضعها في ماء حتى تشرَّبَت الماء، ثم شرب منه، ومسح عينه، وخرج مع الناس يُصلِّي الظهر، وفي آخر النهار جاءه الخبر بأن جميع إبله رجعت، ما فُقِد منها بعيرٌ.
من طُلِبَ منه أن يُعطي المُعان فضل وضوئه أو غسله، فلا يرفض:
قال الشيخ رحمه الله: بعضُ الناس يُتَّهمُ بأنه أصاب أخاه بالعين، إما لكلمةٍ قالها أو قرينة تدلُّ على ذلك، فيأتي إليه الْمُصاب أو أهله يطلبون منه أن يستغسل بالوضوء أو بالغسل، فينفر منهم ويسبُّهم ويشتمهم، ويأبى أن يُطيعَ، وهذه خطأ؛ لأنه ربما يكون الأمر واقعًا، فإن كان واقعًا حصل دَفْع الأذيَّة التي حصلت منه بفعله بنفسه، وإن لم يكن واقعًا فإنه لا يضرُّه؛ لأنه إذا لم يُشْفَ المريض بذلك، عَلِمَ أنه لم يُصِبْه بالعين، وإذا شُفِي بذلك عَلِم أنه أصابه وسلِم من أذيَّة أخيه، ومن العقوبة التي تترتَّب على ذلك إذا كان هو الذي أصابه، وهذا لا يضُرُّه.
لكن بعض الناس - والعياذ بالله - تأخُذُه العِزَّة بالإثم ويأبى ويقول: هل أنا عائن؟ وما أشبه ذلك، وهذا خطأ؛ بل انفَعْ أخاك إن كانت العين منك، فتكون قد تخلَّصْتَ منها وشفى اللهُ صاحبَكَ، وإن لم تكن منك، فإنه لا يضُرُّكَ ولم ينفعه ما أخَذ منك، وحينئذٍ يُعرَفُ أنك بريء من العين.
الواجب على من يعرف من نفسه أنه يُصيب الناس بالعين أن يُكثر التبريك:
قال الشيخ رحمه الله: ينبغي لمن عرَف من نفسه أنه عائن أن يُكثِر التبريك إذا رأى ما يَسُرُّه، فيقول: تبارك الله، ما شاء الله، وما أشبه ذلك، وقال رحمه الله: يوجد أُناس نسمَع عنهم أنهم تابوا من العين، وصاروا كلما رأوا شيئًا ذكروا الله تعالى.
الوقاية والتحرُّز من العين:
قال الشيخ رحمه الله: التحرُّز من العين مقدَّمًا، لا بأس به، ولا يُنافي التوكُّل؛ بل هو التوكُّل؛ لأن التوكُّلَ الاعتماد على الله سبحانه مع فعل الأسباب التي أباحها أو أمر بها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعوِّذ الحسن والحسين ويقول: ((أعيذكما بكلماتِ الله التامَّة من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة))، ويقول: ((هكذا كان إبراهيم يُعوِّذ إسحاق وإسماعيل عليهما السلام))؛ [رواه البخاري].
وقال رحمه الله: خير وقاية منها، وقاية دافعة، أن الإنسان يستعمل الأوراد الواقية من العين وغيرها مثل آية الكرسي؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام فيها: ((مَنْ قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظٌ، ولا يقرَبه شيطان حتى يُصبِح)).
قال الشيخ رحمه الله: توجد طريقة لدفع عين العائن؛ أنك إذا مررت به تقول: "اللهم إني أجعلك في نَحْرِه، وأعوذ بك من شرِّه"، فهذه تفيدُكَ كثيرًا، وهناك أيضًا أن تظهر الشيء له بمظهر لا يحسُدُكَ عليه، فهذا من دَرْء العين ألَّا تظَهر أمام العائن بمظهر يحسُدُكَ عليه.
وقال رحمه الله: للعين أشياء تقي؛ منها: دافعة ورافعة.
أما الأشياء الدافعة، فأن يُكثِر الإنسان من الأوراد التي جاءت بها السنة؛ مثل: قراءة آية الكرسي، والآيتين من آخر سورة البقرة، وسورة الإخلاص، والفلق، والناس.
العلاج الشرعي لمن أُصيب بالعين:
قال الشيخ رحمه الله: العلاج الشرعي لمن أُصيب بالعين، ولا يعرف مَنْ أصابه بالعين، فعلاجُه بكثرة قراءة القرآن، ومن ذلك سورة الفاتحة، وآية الكرسي، وسورة الإخلاص، والفلق، والناس، ويقرأ مثل قوله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57] إلى غير ذلك من الأدعية المناسبة.
وقال رحمه الله: من أصيب بالعين، إذا علِم عائنه فإنه يطلب منه أن يتوضَّأ ويؤخُذ ما يتساقَط من ماء وضوئه، ثم يُعطي للعائن يصُبُّ على رأسه وعلى ظهره، ويُسقى منه، وبهذا يُشفى بإذن الله، وقد جرت العادةُ عندنا أنهم يأخذون من العائن ما يُباشر جسمه من اللباس مثل الطاقية وما أشبه ذلك، ويرسِّبونه في الماء، ثم يسقونه المصاب، ورأينا ذلك يفيده حسبما تواتَر عندنا من النُّقول، فإذا كان هذا هو الواقع فلا بأسَ باستعماله؛ لأن السبب إذا ثبت كونه سببًا شرعًا أو حِسًّا، فإنه يعتبر صحيحًا.
من يجعل الله تعالى في رُقيته بركة:
قال الشيخ رحمه الله: التكسُّب بالرقية كثُرَ جدًّا، ومن أُناسٍ الله أعلمُ بحالهم من ناحية الاستقامة؛ لكن المؤمن الذي يُريدُ أن ينفع أخاه، وهو الذي يقرأ، فإن أُعطي أخَذ، وإن لم يُعْطَ لم يسأل، وهذا هو الذي يجعل اللهُ تعالى في رقيته بركتَه، أما من جعل القرآن الكريم وسيلةً للتكسُّب، فقد اشترى الدنيا بعمل الآخرة - والعياذ بالله - وما له في الآخرة من نصيب.
القارئ لا يمسُّ المرأة مهما كان:
سُئل الشيخ: بالنسبة للقارئ على المرضى، ما هي الأماكن التي يجوز أن يمسكَها من المرأة، هل له الحقُّ أن يُمسِك الرأس أو يُمسِك غير ذلك؟ فأجاب رحمه الله: والله، لا أرى له ذلك مهما كان، لا يضعُ يده على موضع الألم بالنسبة للمرأة، أما بالنسبة للرجل، فإنه من المستحسَن أن يضَعَ الرجُلُ يدَه على موضع الألم، ويقولُ: أُعيذك بعزَّةِ الله وقُدْرته من شرِّ ما تجدُ وتُحاذر، وما أشبه ذلك مما وردت به السنة.
ومما يحسُن أن يُختَم به هذا الموضوع: توجيه نصيحة للحاسد، فلينظر إلى ما يقوم به من تعدٍّ على إخوانه المسلمين، ويقارن بينه وبين موقف الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما الذي شتمه رجلٌ، فقال: إنك لتَشتمني، وإني فيَّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله، فلَوَدِدْتُ أن الناس يعلمون أكثر مما أعلمُ، وإني لأسمع بالحاكم من حكَّام المسلمين في أي أرض يعدِل في رعيَّتِه فأفرَح به، ولعلِّي لا أتحاكم في قضية واحدة، وإني لأسمع أن الغيث أصاب بلدًا من بلدان المسلمين فأفرَح به، وما لي به من سائمة؛ [قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، رجاله رجال الصحيح]، فليجاهد الحاسد نفسَه في محبَّة الخير للناس.
ثم ليعلَم أن تطهير قلبه من الحقد على إخوانه المسلمين من أسباب دخول الجنة؛ كما ورد في الرجل الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، فلزِمه عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما لينظُر عملَه، فلم يجده يعمل شيئًا، فسأله: ما شأنُكَ؟ فقال له الرجل: إني لا أبيتُ وفي قلبي حِقْدٌ على أحد.
هذا وأسأل الله الكريم الشفاءَ التامَّ لجميع مَنْ أُصيبَ حقيقةً أو وهمًا بالعين، وأن يجعل ما أصابه كفَّارةً له.