إعجاز الطب الوقائي في الإسلام
مدخل عام للطب الوقائي في الإسلام :
يعتبر الطب الوقائي حجر الزاوية في السياسة الصحية لجميع الدول، وتصرف عليه ميزانيات ضخمة حتى يتطور ويطبق، لأن الوقاية خير من العلاج كما تقول الحكمة؛ وقد سجل الإسلام قصب السبق في هذا الميدان، فحدد معالم عامة لهذا الطب منذ خمسة عشر قرنا، بدءا بترسيخ معتقد الفرار من قدر الله إلى قدر الله في الحادثة المشهورة بين أبي عبيدة بن الجراح وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي مشكلة فكرية كانت مستعصية على جميع المتدينين، وانتهاء بإرشادات ما فتئت منظمة الصحة العالمية حاليا تؤكد أهميتها في الحفاظ على الصحة العامة، بل وتعمل بها كالحجر الصحي في مرض أنفلونزا الطيور حديثا، والوقاية من الأمراض التعفنية السارية كالنهي عن التبول في الماء الراكد- للقضاء على البلهارسيا – وفي الطريق وفي أماكن الظل؛ والحث على تغطية أواني الأكل وعلى تقليم الأظافر وعلى الختان للحد من سرطان القضيب ومن التعفنات، والتأكيد على النظافة العامة...
بل أكثر من ذلك، ابتكر الإسلام مفاهيم جديدة، وفتح بابا ما يزال ولوجه مستعصيا على غير المتدينين، ألا وهو باب الوقاية الروحية والنفسية، ومن هنا شرع الإسلام الرقية والدعاء للسقيم وللمعافى، وهذا يبعث في قلب المريض الثقة والأمل في الشفاء، ويجدد إيمانه بالله تعالى، ويشحذ عزيمته ويقوي معنوياته فيكون سببا في تعجيل شفائه بإذن الله، لأن المناعة الداخلية للإنسان كما هو معلوم، لها ارتباط وثيق بالأمل وبالمعنويات وبالأفكار المسبقة، فهي قد تهيئ الشخص لاستقبال الحدث سلبا أو إيجابا .
مقدمة في الأمراض المتناقلة جنسيا :
تسجل كل سنة أكثر من 300 مليون إصابة بالأمراض الجنسية القابلة للعلاج، وأكثر من 5 مليون حالة بمرض فقدان المناعة المكتسبة، وأضعافها من العقبولة والتآليل وباقي الأمراض التي لا علاج لها . وتتميز هذه الأمراض بخصوصيات شديدة، فهي لا تصيب إلا الإنسان، ولا تعطي أية مناعة للمصاب، وجراثيمها ضعيفة جدا فلا تتحمل العيش خارج السوائل الفزيولوجية للإنسان، والبحث عن تلقيح الإنسان ضدها تعوقه مشاكل علمية جمة نظرا للتطور السريع لهذه المكروبات . ومن خصائصها أيضا، ارتباطها بسلوك الإنسان، بمعنى أن اتقاء مخاطرها ممكن إن صح العزم من الفرد، ووضحت الرؤية لأصحاب القرار . ومن خصائصها أنها تتعدى الفرد إلى المجتمع، بإصابة الشباب القادر على العمل والإنتاج، وبإصابة المواليد بإعاقات إن لم تودي بحياتهم، فإنها تشكل عبئا على أسرهم وعلى المجتمع الذي سيتكفل بهم . لذلك تعتبر منظمة الصحية العالمية الأمراض الجنسية من مشاكل الصحة العمومية التي تهدد البشرية، لأن هذه الأمراض لا تعترف بالحدود ولا بالفوارق الاجتماعية، ويظهر منها الجديد بين فترة وأخرى وهذا يدفع المنظمة إلى الحث على الوقاية من هذه الأمراض . هذا التصور الوقائي نابع بالأساس من التصور الغربي للحياة وللإنسان وللكون، لأن الحضارة الغربية في هذه المرحلة هي من تقود العالم أجمع . فما هو يا ترى هذا المنهاج الوقائي المعتمد من طرف الغرب، والذي يدرس في جامعاتنا؟ وما هي نقاط قوته؟ وما هي مكامن الخلل فيه؟ . وهل في القرآن والسنة منهاج وقائي من هذه الأمراض؟ وما وجه الإعجاز الوقائي فيما أقره الإسلام؟. للوقوف على هذه المعاني، سنقوم بمقارنة الوقاية من الأمراض الجنسية بين الحضارتين، الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية .آ
الوقاية من الأمراض المتناقلة جنسيا في الحضارة الغربية :
ترتكز الوقاية من الأمراض المتناقلة جنسيا في الفلسفة الغربية وهي التي تقود الطب الحديث حاليا على دعامتين :
الوقاية التقنية :
تعتمد على أساليب علمية وأبحاث مخبرية، ولا تتأثر بالإديولوجيا، وقد حققت نتائج مذهلة في البلدان التي تحترمها .
الوقاية السلوكية :
وهي نتاج معتقدات وفلسفات ورهينة تقلبات وأسيرة لوبيات لا حد لها، لهذا جاءت توصياتها فضفاضة، وأفكارها غير مستقرة .فتحديد عدد الشركاء الجنسيين يبقى دون معنى، وتقنين ممارسة اللواط يزحف حتى على بعض الكنائس...
تحليل وتعقيب :
أدى غياب الرؤية الواضحة لما هو طبيعي وشاذ في العلاقات الجنسية إلى تغليب هوى الشواذ (بغايا, لوطيون, مدمنون ..): فباركت بعض الكنائس زواج اللوطيين، ووزعت بعض الحكومات رسميا المخدرات على المدمنين، وقننت جل الحكومات الدعارة فأصبحت لها مؤسسات بأسماء شتى ( ملكات الجمال، مدرسة النجوم ..) ترعى مصالحها وتزودها ب " اللحم " اللازم لكي تستمر وتستعر . كما اصطدم واجب الطبيب في النصح لمن هم في خطر، بمفهوم الحياد، وبإلزامية السر المهني وبمزاج المصاب، وهكذا تحول الطبيب إلى كاتب الوصفات الدوائية .
وهكذا، باءت الوقاية السلوكية بالفشل الذريع، واصطدمت بالمفهوم الغربي للحرية الفردية، وبالنصائح الفضفاضة التي تتضمنها ( متى وابتداء من أي عدد يحسب الفرد متعدد الشركاء الجنسيين؟ وهل نعطي حبوب منع الحمل والعوازل المطاطية للمراهقين والمراهقات أم لممارسي البغاء واللواط؟..)، فكانت النتيجة ارتفاعا متزايدا للمصابين بالأمراض الجنسية الكلاسيكية منها والحديثة .
هذا الزحف المخيف للأمراض المتناقلة جنسيا، وهذا الفراغ الهائل الحاصل في ميدان الوقاية من هذه الأمراض التي سميت بحق طاعون العصر، لن يسده إلا البديل الإسلامي الذي يمزج المادة بالروح ، وحرية الفرد بمصلحة المجتمع، ومراقبة الله بسلطان القوانين ؛ باختصار: الدنيا بالآخرة، فيخرج لنا شجرة طيبة، أصلها ثابت بالعقيدة، وفروعها تحلق في سماء الكمال الأخلاقي كما سنرى إن شاء الله .
الوقاية من الأمراض المتناقلة جنسيا في الإسلام
الوقاية التقنية:
طبيعة الإسلام الانفتاح مع التميز، وهذه الخاصية تؤهله للاستفادة من كل ما هو نافع للبشرية ولا يصطدم مع المعتقدات الإسلامية، ولنا في سيرة الرسول "ص" الأسوة الحسنة؛ فتقنية الخندق، ونظام البريد، وفكرة صك النقود، وغير هذا مما كان سائدا في الحضارات المعاصرة لفجر الإسلام وتمت الاستفادة منه لما فيه من مصلحة الناس يؤصل لنا الاستفادة من الأساليب المعتمدة في الوقاية التقنية دون حرج ولا عقد وهي أساليب أعطت أحسن النتائج في كل البلدان التي تعمل بها .فشرعا من الواجب العمل بكل التقنيات الوقائية لأن النفس البشرية مكرمة عند خالقها .
الوقاية السلوكية :
هنا مكمن قوة الإسلام، فالتحديد الواضح للمفاهيم، والاعتراف السلس بالغرائز، والبناء الفكري المتماسك، والنظام الوقائي الذي يتعدى الفرد إلى المجتمع، فيحمل كل طرف مسؤولية مناسبة مع موقعه، والدافع الروحي المتقد، والنظام التشريعي المتكامل...كل هذا يكون صرحا شامخا يحق الافتخار به؛ بل يجب تبنيه كإعجاز وقائي من أمراض رهيبة حيرت العلماء، ويجب طرحه للعالم أجمع حتى ننقذه من براثن طاعون العصر .آ
يمكن تقسيم هذه الوقاية كالتالي:
الوقاية الفكرية بالمفاهيم الواضحة والثابتة: فالحرام والحلال سيظلان كذلك في التصور الإسلامي، ولن يخضعا لهوى أية طائفة مهما تمكنت في الأرض .
الوقاية بالالتزام الفردي:
دعامته الأولى الآية الكريمة : " وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَىآ ...آ " (الإسراء 32) . أما دعامته الثانية فهي الاستعفاف في قوله تعالى:" وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ...آ "آ ( النور:33 ) .
أما دعامته الثالثة فهي تذكر الله عز و جل ومراقبته في كل الحركات والسكنات، وهي الخيط الرفيع والحبل المتين والمفقود في كل الحضارات المادية، هذه الدعامة هي التي أخرجت لنا جيلا قرآنيا فريدا كان يتلقى التعاليم الإسلامية للتنفيذ. هذه الدعامة هي الضمانة الوحيدة ليعيد التاريخ نفسه، وتستعيد الأمة أمجادها .
الوقاية بالعدالة الاجتماعية .
آ الوقاية عبر المجتمع المدني: أساسها حديث السفينة
الوقاية بالتوبة: وهو باب الأمل الذي لا يغلق
الوقاية بالحدود: وهي عمليا يستحيل تطبيقها إن لم يستيقظ ضمير المذنب، فيعترف بذنبه، ويرغب في التطهر، حتى يكون درسا لمن تزين له نفسه المعصية، وفي حديث الغامدية العظة البليغة، والحكمة العظيمة لأثر الإيمان في نفس صاحبه .
خاتمة وتوصيات:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الإسلام خاتم الأديان، فجاء منهاجه في الوقاية من هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة غاية في الكمال، ومعجزة طبية خالدة، مزج فيها العقيدة بالفكر والعاطفة ، وترجمها إلى سلوك، ورعى كل هذا بالقوانين ، ورغب في التوبة، وهيأ الأسباب المادية للاستمتاع الحلال، وكره الزنا كما يكرهه المرء لأمه وأخته، فكانت الثمار حضارة فريدة، تعلمت البشرية منها سمو الأخلاق، وعزة النفس، واحترام الإنسان يوم سادت الأرض .
إذا فسدت المنطلقات، خيبت النتائج المنتظرة ظننا ، والعكس صحيح ، وهذا ما نعايشه بالضبط وبشقيه في موضوع الأمراض المتناقلة جنسيا ، ولا من يعتبر. الوقاية التقنية بنيت على أسس علمية متينة بدون أية لفافة فكرية ولا مسحات أيديولوجية , فكانت النتائج جيدة لمن أخذ بالأسباب المذكورة. أما الوقاية السلوكية فنتائجها مخيبة للآمال ، وتقريبا كل الحالات المسجلة لمرض فقدان المناعة المكتسبة ولباقي الأمراض الجنسية سببها المفاهيم الخاطئة لطرق إشباع الغريزة الجنسية والتي تترجم إلى سلوكيات خطرة، ورغم ذلك ، مازال دعاة الانحلال الخلقي يتبجحون وهم يقفون على أسس واهية ، ودعاة العفة منغلقون ومنطلقاتهم آتت أكلها حين قادت الحياة . لننفض غبار التقاعس عنا، ولنجعل منطلقنا هذه الآية الكريمة قال تعالى : " ... ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُون "(المائدة:23 )آ .آ