الحمد لله... الدِّين في حياة الأمم والشعوب هو المُحرِّك الرئيس، والعنصر الفاعل، وبدونه تفقد الأممُ قُدرتَها على الاستمرار والعطاء، وليست التجربة الاشتراكية عنَّا ببعيد؛ إذ فَقَدَ أبناؤها كلَّ دافعٍ لهم في الحياة، ممَّا أدَّى في النهاية إلى سقوط الفكر الاشتراكي الشيوعي.
فالدِّين هو الذي يدفع الأممَ إلى التَّقدُّم والرُّقي، ويدفع الأفرادَ إلى الإنجاز والعطاء، ويبقى الفارقُ بين أُمَّةٍ وأُخرى هو موافقتها للحق، واعتناقها الدِّينَ الخالص الصواب.
والدِّينُ الإسلامي هو الدِّين الخاتم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده؛ من أصحاب الدِّيانات السَّماوية السابقة أو حتى من أصحاب الدِّيانات الوضعية الوثنية، وهو الدِّين الذي لا ينجو إلاَّ مَن اعتنقه واتَّبعه، وعمل بمقتضاه، وقد تضافرت الأدلةُ على ذلك من القرآن والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران: 19]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)، وهذه الأدلَّة وغيرها قطعيةُ الثبوت، قطعيةُ الدلالة لا مجال فيها للعقل أو الفكر.
ونظراً لأهمية الدِّين وكونِه المحور الذي تدور حوله حياة الأمم والأفراد، بل وآخرتهم فقد ضَمِنَت نصوص الوحيين حِفْظَ الدِّين، ونقصد بالدِّين يقيناً الدِّين الإسلامي؛ إذ إنَّ ما عداه لا يُعتد به، ولا يُؤبه له، فحِفظُ الدِّين مقصدٌ عظيم من مقاصد السنة النبوية، بل هو أوَّل مقاصِدِها، فوَضَعت السُّنةُ القواعدَ والتدابيرَ التي به يتمُّ حفظ الدِّين، ولم تترك هذا الأمر للاجتهاد أو للبشر، وإنما ضمنت حِمايته وصيانته، واتَّخذت الوسائلَ والتدابيرَ المناسبة لذلك ابتداءً، دون انتظارٍ لتطوُّر الزمان أو تغيُّر الأحوال وما يصاحبهما من ظروفٍ وملابسات، وهذا من كمال السُّنة النبوية وعظمتها.
والمقصود من حفظ الدِّين أشار إليه وبيَّنه الشاطبي - رحمه الله - بقوله: (فإنَّ حِفْظَ الدِّين حاصله في ثلاثة معانٍ: وهي: الإسلام، والإيمان والإحسان، فأصلُها في الكتاب، وبيانُها في السُّنة، ومُكَمِّلُه ثلاثة أشياء: وهي: الدعاء إليه بالترغيب والترهيب، وجهادُ مَنْ عانَدَه أو رامَ إفسادَه، وتلافي النُّقصان الطارئ في أصله، وأصلُ هذه في الكتاب، وبيانُها في السُّنة على الكمال)، فالكتاب والسُّنة هما مصدر التشريع، منهما تُستَمَدُّ الأدلة، وتُسْتَخرَج الأحكام، وتُستنبط المسائل، وتُستخلص المقاصد، دون تفريقٍ بينهما، وفي هذا دليلٌ على عظمة السُّنة ومكانتِها في التشريع.
المقصود بالدِّين: والمقصود بالدِّين هنا ثلاثة معان:
الأول: الدِّين بمعنى الوحي الإلهي الذي ينزل على الرسل.
الثاني: الدِّين بمعنى الإيمان بالله وبالرسل واليوم الآخر.
الثالث: الدِّين بمعنى الأحكام المشروعة التي تحكم ظواهر الناس.
وهذه المعاني الثلاثة يُقصد منها ما يلي:
1- كون الدِّين هو وحي الله تعالى، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا مجال للتحريف أو الخطأ، فعندما يُرسِلُ اللهُ وحيَه إلى نبيِّه ورسوله، فهذا النبيُّ هو المقصود بعينه دون غيره، وما أُرسل إليه هو عينُ ما أراده الله تعالى، وهذا فيه أبلغ ردٍّ على بعض الفِرق الضالة والمنحرفة التي تُشكِّك في الدِّين من جهة الوحي، ومن كونه أخطأ القصد أو الهدف، فهذا مردودٌ عليه بحفظ الله تعالى لدينه، ولا حِفظ للدِّين إلاَّ بحفظ الوسيلة وهي الوحي، ومن ثَمَّ كان أمينُ الوحي جبريلُ (شديد القوى) كما وصفه ربُّه تبارك وتعالى.
2- كون الدِّين عقيدة وعبادة؛ فالعقيدةُ مُتمثِّلةٌ في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكلِّ ما يقتضيه الإيمانُ وتتطلَّبه العقيدةُ الصحيحة، والعبادةُ مُتمثِّلةٌ في شرائعه وأحكامه وآدابه ومعاملاته، وهذا يقتضي البيان والإيصال والحفظ، فضَمِنَ اللهُ بيانَ دينه وإيصالَ رسالته إلى جميع خلقه، وحِفْظَه من التحريف أو التأويل أو الضياع.
ونظراً لتلك الأسباب كلِّها كان الدينُ ضرورةَ حياةٍ بالنسبة للإنسان، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِهِ) الحديث. قال ابن القيم - رحمه الله: (حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كلِّ شيءٍ، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطِّب إليها، ألا ترى أنَّ أكثر العالَم يعيشون بغير طبيب).
وسائل المحافظة على الدِّين:
نظراً للاعتبارات المُتقدِّمة فقد حافظت نصوص الوحيين على الدِّين، سواء من حيث غرسِه في النفوس وتعميقِه فيها ابتداءً، أو من حيث تدعيمِ أصلِه وتعهُّدِه بما يُنمِّيه ويحفظ بقاءه استمراراً ودواماً، وشَرَعت لذلك الوسائل التالية:
ومن وسائل غرس الدِّين في النفوس ابتداء:
1- ترسيخ اليقين بأصول الإيمان وأركانه، وهي الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره؛ وقد جاء في حديث جبريل المشهور في تعريف الإيمان: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ).
2- إقامة هذا الإيمان على البرهان العقلي والحجة العلمية، ومن هنا جاء الحث على النظر والتدبر؛ كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190]. الآيَةَ كُلَّهَا.
3- القيام بأصول العبادات، وأركان الإسلام؛ من صلاة وزكاة وصوم وحج، بعد النطق بالشهادتين، فهذه العبادات من أهمِّ أسرارِها وحِكَمِها أنها تصل العبد بربه، وتُوَثِّق صلته به، مما يُرسِّخ أصل الإيمان في نفسه ويُجدِّده؛ ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه تبارك وتعالى: (وما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ، وما يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ) الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ على خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لاَّ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ).
4- إيجاب الدعوة إلى الله، وحمايتها، وتوفير أسباب الأمن لحَمَلَتِها؛ ومن النصوص الحاثة على الدعوة إلى الله تعالى، قوله صلى الله عليه وسلم: (نَضَّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيسَ بِفَقِيهٍ)، وما وصَّى به أُمَّته قائلاً: (فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ).
وهذا المنهج النبوي في حِفظ الدِّين فيه عدَّة دلالات:
الأوَّل: البيان: وذلك من خلال تعليم الناس أمور دينهم، وبيانِها وتوضيحِها، فلا يختلط بالدِّين ما ليس منه، ولا يخرج من الدِّين ما هو منه، وقد قامت السُّنة بهذه الوظيفة على أكملِ وجهٍ وأتمِّه، فما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ وقد بلَّغ الدِّين بتمامه، ومصداقُ ذلك قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
الثاني: التَّطبيق العملي: وذلك من خلال الممارسة العملية للشعائر الدِّينية والعبادات الإسلامية، وقد مارسها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمليًّا ونقلها عنه أصحابه - رضي الله عنهم، فكانت أوقعَ في النفس، وأدعى إلى المتابعة عليها، والتَّأسِّي بها.
الثالث: احترام عقلية المُتلقِّي: فالشرائع الإسلامية والعقيدة الإيمانية كلُّها مُتَّسقة مع العقل، فلا تُخالفه، ولا تحيد عنه قيد أنملة، وقد دعت إلى إعمالِ العقلِ والتَّفكُّر والتَّأمُّل، والحُكْمِ على الأمور والأشياء؛ لأنها تُدرك هذا الاتِّساق والتَّناغم والتَّناسب مع الفطرة، والعقلِ السليم.
#منقوووول