«قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسُدي، وغيرهم: هم أهل أيلة، زاد ابن عباس: بين مَدْين والطور، قالوا: وكانوا متمسكين بدين التوراة في تحريم السبت في ذلك الزمان، فكانت الحيتان قد ألفت منهم السكينة في مثل هذا اليوم؛ وذلك أنه كان يحرم عليهم الاصطياد فيه، وكذلك جميع الصنائع والتجارات والمكاسب، فكانت الحيتان في مثل يوم السبت، يكثر غشيانها لمحلتهم من البحر؛ فتأتي من ههنا وههنا ظاهرة آمنة مسترسلة، فلا يهيجونها ولا يذعرونها.
﴿ وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ ﴾ وذلك لأنهم كانوا يصطادونها فيما عد السبت، قال الله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم ﴾ أي: نختبرهم بكثرة الحيتان في يوم السبت ﴿ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون ﴾ أي: بسبب فسقهم المتقدم، فلما رأوا ذلك، احتالوا على اصطيادها في يوم السبت، بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص، وحفروا الحفر التي يجري معها الماء إلى مصانع قد أعدوها، إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها، ففعلوا ذلك في يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسترسلة يوم السبت؛ علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها، فغضب الله عليهم ولعنهم؛ لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظاهرة للناظر، وهي في الباطن مخالفة محضة، فلما فعل ذلك طائفة منهم، افترق الذين لم يفعلوا ذلك فرقتين؛ فرقة أنكروا عليهم صنيعهم هذا، واحتيالهم على مخالفة الله وشرعه في ذلك الزمان، وفرقة أخرى لم يفعلوا ولم ينهوا، بل أنكروا على الذين نهوا، وقالوا: ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ يقولون لهم: ما الفائدة في نهيكم هؤلاء وقد استحقوا العقوبة لا محالة؟ فأجابتهم الطائفة المنكرة بأن قالوا: ﴿ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ﴾ أي: فيما أمرنا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنقوم به خوفًا من عذابه، ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون ﴾ أي: ولعل هؤلاء يتركون ما هم عليه من هذا الصنيع، فيقيهم الله عذابه، ويعفو عنهم إذا هم رجعوا واستمعوا، قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ أي: لم يلتفتوا إلى من نهاهم عن هذا الصنيع الشنيع الفظيع ﴿ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ﴾ وهم الفرقة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ﴿ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ وهم المرتكبون الفاحشة ﴿ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾ وهو الشديد المؤلم الموجع ﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُون ﴾ ثم فسر العذاب الذي أصابهم بقوله: ﴿ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِين ﴾ وسنذكر ما ورد من الآثار في ذلك.
والمقصود هنا أن الله تعالى أخبر أنه أهلك الظالمين، ونجى المؤمنين المنكرين، وسكت عن الساكتين، وقد اختلف فيهم العلماء على قولين: فقيل: إنهم من الناجين، وقيل: إنهم من الهالكين، والصحيح الأول عند المحققين، وهو الذي رجع إليه ابن عباس إمام المفسرين، وذلك عند مناظرة مولاه عكرمة، فكساه من أجل ذلك حلة سنية؛ تكرمة، قلت: وإنما لم يذكروا من الناجين؛ لأنهم وإن كرهوا ببواطنهم تلك الفاحشة، إلا أنهم كان ينبغي لهم أن يحملوا ظواهرهم بالعمل المأمور به من الإنكار القولي، الذي هو أوسط المراتب الثلاث، التي أعلاها الإنكار باليد، ذات البنان، وبعدها الإنكار القولي باللسان، وثالثها الإنكار بالجنان، فلما لم يذكِّروا لم يُذكَرُوا مع الناجين، إذ لم يفعلوا الفاحشة، بل أنكروا.
وقد روى عبدالرزاق عن ابن جريج عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس وحكى مالك عن ابن رومان، وشيبان عن قتادة وعطاء الخراساني ما مضمونه: أن الذي ارتكبوا هذا الصنع، اعتزلهم بقية أهل البلد، ونهاهم من نهاهم منهم، فلم يقبلوا، فكانوا يبيتون وحدهم ويغلقون بينهم وبينهم أبوابًا، حاجزًا لما كانوا يترقبون من هلاكهم، فأصبحوا ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها، وارتفع النهار واشتد الضحاء، فأمر بقية أهل البلد رجلًا أن يصعد على سلالم، ويُشرف عليهم من فوقهم، فلما أشرف عليهم، إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون، ففتحوا عليهم الأبواب فجعلت القردة تعرف قراباتهم، ولا تعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم، ويقول لهم الناهون: ألم ننهكم عن صنيعكم، فتُشير القردة برؤوسها: أن نعم.
ثم بكى عبد الله بن عباس، وقال: إنا لنرى منكرات كثيرة، ولا ننكرها، ولا نقول فيها شيئًا، وقال العوفي عن ابن عباس: صار شباب القرية قردة، وشيوخها خنازير، وقال الضحاك عن ابن عباس: إنه لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل هؤلاء ولم يشربوا ولم ينسلوا».
ومن فوائد الآيات الكريمات:
أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الشعائر التي يحفظ الله بها الدين، وتقي المجتمع من الشرور والمعاصي، قال تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ﴾ ]آل عمران:110 ]، وفي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا».
أن السكوت عن المنكر مع القدرة على التغيير موجبًا للعقوبة لما فيه من المفاسد العظيمة، وفي الحديث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكْمُ».
4- أن إنكار المنكر على ثلاث مراتب، إما باليد، أو اللسان، أو القلب، وهو أقلها، وفي الحديث: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ».
5- أن من مقاصد إنكار المنكر المعذرة إلى الله، وإقامة الحجة على المأمور، ولعل الله أن يهديه فيعمل بمقتضى ذلك الأمر والنهي، لقوله تعالى: ﴿ قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون ﴾ [الأعراف: 164].
6- أن الناجين من الأمم هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُون ﴾ [الأعراف: 165].
7- «أن الفرقة التي لم تعمل المنكر نجت على الصحيح من أقوال العلماء؛ لأن الله خص الهلاك بالظالمين، وهو لم يذكر أنهم ظالمون، فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار ذلك، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم: ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾، فأبدوا من غضبهم عليهم ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم، وأن الله سيعاقبهم أشد العقوبة».
8- ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه؛ ولذلك عاقبهم الله بأعظم عقوبة، وهو أنه مسخهم قردة خاسئين، أي أذلاء صاغرين، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِين ﴾ [الأعراف:166].
9- أن الله أهلكهم بعد أن مسخهم قردة، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا، فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ».
10- «أن الله عز وجل قال: ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين ﴾ ]البقرة: 66]، أي لمن حضرها من الأمم وبلغه خبرها ممن هو في وقتهم، وما خلفها: أي من بعدها، فتقوم على العباد حجة الله، وليرتدعوا عن معاصيه، ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين، وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات».
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
دراج الشبح مشرف منتدى الكمبيوتر والانترنت
الأوسمة : عدد الرسائل : 44467 العمر : 25 الإقامة : ليبيا الدولة : الجنسية : تاريخ التسجيل : 12/09/2016 السٌّمعَة : 73
موضوع: رد: قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت الإثنين يناير 28, 2019 4:28 am
_ ______ - بارك الله فيك على مجهودك الرائع
لك مني كل شكر وتقدير بإنتظار جديدك
سيموني شمس المنتدى
الأوسمة :
عدد الرسائل : 21439 العمر : 33 الإقامة : ســـوراقيـــا الدولة : الجنسية : تاريخ التسجيل : 03/12/2009 السٌّمعَة : 14
موضوع: رد: قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت الأحد سبتمبر 08, 2019 10:23 pm
اجد الابداع والتواصل الجميل في اختياركم الراقي لك مني باقات من الورود
اشكر ليونة عالتوقيع اللي يجنن
صدى الابداع صديق ذهبي
الأوسمة : عدد الرسائل : 2709 العمر : 24 الإقامة : العراق العظيم الدولة : الجنسية : تاريخ التسجيل : 27/01/2014 السٌّمعَة : 15
موضوع: رد: قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت الثلاثاء سبتمبر 10, 2019 11:17 pm
مجهود رائع بارك الله فيكـ ولا حرمكـ الأجر دمت برضى الله وفضله
نطق الصمت قمر المنتدى
الأوسمة :
عدد الرسائل : 8390 العمر : 32 الإقامة : بالعالم الدولة : الجنسية : تاريخ التسجيل : 31/08/2013 السٌّمعَة : 22
موضوع: رد: قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت الأربعاء سبتمبر 11, 2019 12:08 am
عدد الرسائل : 17288 العمر : 31 الإقامة : دنيا الاحزان الدولة : الجنسية : تاريخ التسجيل : 04/03/2013 السٌّمعَة : 40
موضوع: رد: قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت الخميس سبتمبر 12, 2019 5:11 pm
بارك الله فيك وبجهودك
المباركة القيمة أسال لك التوفيق والسداد
وأن يجمعنا الله ويبقينا على الود والمحبة والإخاء
وان يجزيك خير الجزاء
شعار مجموعة نرقى ليرقى منتدانا
iraqi شمس المنتدى
الأوسمة :
عدد الرسائل : 13714 العمر : 34 الإقامة : iraq الدولة : الجنسية : تاريخ التسجيل : 30/08/2012 السٌّمعَة : 46
موضوع: رد: قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت الإثنين سبتمبر 23, 2019 10:02 pm
شكر جزيلا لك لهذا الطرح الجميل ننتظر المزيد من الابداع والتميز من مجهوداتكم الرائعه تحيتي وتقديري لكم وددي قبل ردي .....!!
هيمورا كينشن مشرف منتدى التسالي والطرائف
الأوسمة :
عدد الرسائل : 53554 العمر : 40 الإقامة : الرمادي الدولة : الجنسية : تاريخ التسجيل : 01/05/2008 السٌّمعَة : 60
موضوع: رد: قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت السبت أكتوبر 12, 2019 10:49 pm
شكري وامتناني لك على جمالية انتقائك .. ربي يجزيك الخير ويبارك بجهودك الطيبة
قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : " العراق جمجمة العرب وكنزالرجال ومادة الامصار ورمح الله في الارض فاطمئنوا فإن رمح الله لا ينكسر " فليخسئ من يتكلم عن العراق بسوء ___
ابن البلد شمس المنتدى
الأوسمة :
عدد الرسائل : 22103 العمر : 31 الإقامة : بالبلد الدولة : الجنسية : تاريخ التسجيل : 13/02/2013 السٌّمعَة : 39
موضوع: رد: قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت الأحد نوفمبر 03, 2019 8:36 pm
بارك الله فيك على الجهد القيم والمميز وفي انتظار جديدك الأروع والاجمل لك مني أجمل التحيات
██████████ ★ الله ★ اكبر ★ ██████████
emily star شمس المنتدى
الأوسمة : عدد الرسائل : 13124 العمر : 19 الإقامة : :) الدولة : الجنسية : تاريخ التسجيل : 28/07/2016 السٌّمعَة : 48
موضوع: رد: قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت الأحد يناير 26, 2020 10:28 pm