الحمدُ لله... نوَّه الله تعالى بشأن مَنْ نزل بالقرآن على رسولنا محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وهو جبريل عليه السلام، أمين الوحي الإلهي، وذَكَر فضلَه في عدة آيات، منها:
• قوله تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102].
و (روح القدس): جبريل عليه السلام.
والرُّوحُ: المَلَكُ، كما قال تعالى: ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ﴾ [مريم: 17]؛ أي: مَلَكاً من ملائكتنا.
و(القدس): بضمَّتين، وبِضَمٍّ فسكون، مصدر، أو اسم مصدر، بمعنى: النزاهة والطهارة، أو الطُّهر.
والمراد به هنا: معنياه؛ الحقيقي والمجازي، الذي هو الفَضْلُ وجَلاَلَةُ القَدْر.
وإضافةُ الروحِ إلى القُدُسِ، من إضافة الموصوف إلى الصفة؛ كقولهم: حاتمُ الجود، وزيدُ الخَير. والمراد: حَاتمٌ الجواد، وزيدٌ الخَيِّر.
فالمعنى: المَلَكُ المُقَدَّسُ .
• وقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 192-194].
وسُمي جبريلُ - عليه السلام - بالرُّوح لعدة لأوجه:
1- لأنه روح مُقَدَّسة فَوَصْفُهُ بذلك تشريفٌ له وبيانٌ لعلو مرتبته.
2- لأن الدِّين يحيا به، كما يحيا البدنُ بالروح، فهو المتولي لإنزال الوحي إلى الأنبياء.
3- لأن الغالب عليه الرَّوحانية، وكذلك سائر الملائكة، غير أن روحانيته أتَمُّ وأكمل.
4- لأنه ما ضَمَّتْهُ أصلابُ الفحول، وأرحامُ الأمهات .
• وقد وصف الله تعالى جبريل - عليه السلام - بخمس صفات في قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [التكوير: 19-21].
وهذه الصفات الخمس تتضمَّن تزكية سند القرآن العظيم، وأنه سماع نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، من جبريل - عليه السلام، وسماع جبريل الأمين من ربِّ العالمين فناهيك بهذا السند علواً وجلالة.
صفات جبريل الأمين:
الصفة الأولى: أنه كريم.
فهو رسول كريم وليس كما يقول أعداؤه: إن الذي جاء به شيطان، فإن الشيطان خبيث مخبث، لئيم، قبيح المنظر، عديم الخير، باطنه أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه، وليس فيه ولا عنده خير، فهو أبعد شيء عن الكرم.
والرسول الذي ألقى القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم كريمٌ، جميلُ المنظر، بَهِيُّ الصورة، كثير الخير، طيب مطيب، معلم الطيبين.
الصفة الثانية: أنه ذو قوة.
كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ [النجم: 5].
وفي ذلك تنبيه على أمور:
1- أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو منه، وأن ينالوا منه شيئاً، وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يَقْرَبْهُ.
2- أنه مُوَالٍ لهذا الرسول الذي كذَّبتموه؛ ومُعاضِدٌ له، ومُوادّ له ومناصِرٌ، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [التحريم: 4].
وَمَنْ كان هذا القويُّ وليَّه، ومِنْ أنصارِه، وأعوانِه، ومعلِّمَه، فهو المُهتدي المنصور، واللهُ هاديه، وناصِرُه.
3- أنَّ مَنْ عادى هذا الرسولَ فقد عادى صاحِبَه ووليَّه جبريلَ، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عُرْضَةٌ للهلاك.
4- أنه قادر على تنفيذ ما أُمِرَ به لقوته، فلا يعجز عن ذلك، مُؤَدٍّ له كما أُمِرَ به لأمانته، فهو القوي الأمين، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل، والرَّسول، والرِّسالة، والمرسَل إليه والمرسل به؛ لأنه انتدب له الكريمَ القويَّ المكينَ عنده، المُطاعَ في الملأ الأعلى، فإن الملوك لا تُرسل في مهماتها إِلاَّ الأشراف، ذوي الأقدار والرتب العالية .
الصفة الثالثة: أنه مكين عند الرَّب تعالى.
كما قال تعالى: ﴿ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾ [التكوير: 20].
والمكينُ: فَعِيلٌ، صِفَةٌ مُشبَّهةٌ مِنْ مَكُنَ بضم الكاف، مكانةً، إذا علت رتبتُه عند غيره، كما قال الله تعالى في قصة يوسف - عليه السلام - مع المَلِك: ﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ [يوسف: 54].
وتوسيطُ قولِه: ﴿ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ﴾ بين ﴿ ذِي قُوَّةٍ ﴾ و ﴿ مَكِينٍ ﴾ ليتنازعه كِلا الوصفين على وجه الإيجاز؛ أي: هو ذو قوة عند الله؛ أي: جعل الله تعالى مقدِرةَ جبريلَ - عليه السلام - تُخَوِّلُهُ أن يقوم بعظيم ما يُوكله اللهُ به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوة التدبير، وهو ذو مكانة عند الله وَزُلفى.
والعِنديَّةُ: عِنديَّةُ تعظيم وعناية.
وَعُدِلَ عن اسم الجلالة إلى ﴿ ذِي الْعَرْشِ ﴾ لتمثيل حال جبريل - عليه السلام - ومكانته عند الله تعالى بحال الأمير المنفِّذ لأمر المَلِك وهو بمحل الكرامة لديه .
فجبريل - عليه السلام - له مكانة ووجاهة عند الله تعالى، وهو أقرب الملائكة له. يشهد له قوله تعالى: ﴿ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ﴾ إشارةً إلى علو منزلته، إذْ كان قريباً مِنْ ذي العرش سبحانه.
الصفة الرابعة: أنه مُطاعٌ في السماوات.
وفي قوله: ﴿ مُطَاعٍ ثَمَّ ﴾ إشارة إلى أن جنوده وأعوانه من الملائكة الكرام يطيعونه كما يطيع الجيشُ قائدَهم، لنصر صاحبه وخليله محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم.
وفيه إشارة أيضاً إلى أن هذا الذي تُكذِّبونه وتعادونه سيصبح مطاعاً في الأرض، كما أن جبريلَ مُطاعٌ في السماء، وأن كُلاًّ من الرسولين مطاع في محلِّه وقومِه، وفيه تعظيم له بأنه بمنزلة الملوك المطاعِين في قومهم، فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إِلاَّ مثل هذا الملَكِ المُطاعِ.
الصفة الخامسة: أنه أمين.
وفي وصفه بالأمانة إشارة إلى حِفْظِ ما حمله، وأدائِه له على وجهِهِ دون نقصٍ ولا تغييرٍ.
وفيما تقدَّم من عظمة أوصاف جبريل - عليه السلام، تتبيَّن لنا - بقياس الأَولَى - عظمةُ القرآن الذي نَزَلَ به، وعلوُّ شأنه، ومنزلته عند الله تعالى.