في زمن مملوء بالأحقاد والضغائن، صارت فيه الغيبة حديثَ المؤانسة، واتهام الأبرياء بغير بينة قاطعة أو دليل ظاهر، ونشر فضائح المشاهير وترويج الشائعات والأراجيف، تسلية المجالسة.
يؤذيه أحدُهم فيُعمِّم الحكم على الآخرين بمجرد الحدس والتخمين، ويُسيء الظنَّ بالمتقين، ويطعن في المجتهدين، ويُشيع الفاحشة في المؤمنين، ويصف النقي بالفجور، والعدل بالجور، تقوُّلٌ بلا إدراك أو فهم، ومحاكمة بغير بيِّنة، ولا أثارةٍ من علم.
إن سوء الظن بالمؤمنين ليس ذكاءً ولا نباهةً، ولا هو نابعٌ من نور البصيرة؛ ولكنه تلبيس الشيطان وخداعه، واتِّباع الهوى والأخذ بالشُّبْهة، وبناء الحكم على الوهم.
ولا أقصد به تلك الخواطر العابرة التي تجتاز القلب فلا تُغيِّره، وتمرُّ على العقل مرور الكرام، فلا تأخذ حيِّزًا من تفكيره أو تشغله، ذلك أن الخطرات لا نستطيع منها فكاكًا، ولا نسلم منها إطلاقًا؛ لكن إذا أحسست بشيء من هذا تجاه بريء مسلم، فحاول جاهدًا دفعه، ولا تعمل أبدًا بموجبه، واستعذ بالله من غرور الشيطان وظلمه.
واعلم أنه لا يطلب عيوب الناس إلا من خبث باطنه، وفسد قلبه؛ فكل إناء يفيض بما في داخله، فالمؤمن يلتمس الأعذار، والمنافق يتصيَّد الأخطاء، وليس من العدل أن تظن شرًّا بمَنْ هو منه براء.
وإذا دعاك داع الظن السيِّئ بأخيك، فوازن بين محامده وسيئاته، ولا تنسَ فضائله وحسناته.
تعرِف ضعف الناس وانشغالاتها، وغفلتها ونسيانها، فلماذا لا تُقدِّم التماس العذر على التهمة، والعفو على المؤاخذة، والتسامُح على التعنيف؟!
احفظ قدر مَنْ هو فوقك، وتفضَّل على مَنْ هو مثلك، وتغافل عمَّن هو دونك يسترِحْ قلبُك، وتطمئن نفسُك، وتهدأ رُوحك.
فكم حطَّم سوء الظن من علاقات، وكم بدَّد من صداقات، وكم شرَّد من أُسَرٍ، وكم قطَّع من صلات؟
كم أوغر من صدور، وأشعل من فتن، وأوقد من محن؟
تأنَّ ولا تعجل بلومك صاحبًا *** لعل له عذرًا وأنت تلُومُ
أحسِن الظن نعم؛ ولكن لا تُفوِّت الحذر، أحسن الظنَّ بأبنائك وبناتك وأهلك؛ لكن لا ترفع الرقابة عنهم، ولا تهمل تأديبهم وتوجيههم، وأحسن الظن بأهل الصلاح والخير.
واحذر أن تثق بعدوٍّ غاشمٍ، ولا تحسن الظن بمن لا يتورَّع عن القبائح، ولا يُبالي بإظهار الفضائح،
يجاهر بالمعاصي، ويخاف شرَّه الداني والقاصي، أما غير هذا فاحمل أمر أخيك على أجمله، ولا تظُنَّنَّ بكلمة خرجت منه إلَّا خيرًا ما دمت تجد لها في الخير محملًا.
أقْبِلْ على نفسك، فأصلح شأنها، وانشغل بعيوبها، وقوِّم اعوجاجها، واحذر أن تضع نفسك في موضع الريبة والتهمة فتؤثِّم الناس بسوء ظنهم فيك، وإن أتاك فاسق بنبأ فتثبَّت؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا إِخْوانًا))؛ متفق عليه.