تفسيرسورة سبأ عدد آياتها 54 ( آية 1-27 )
وهي مكية
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ }
الحمد: الثناء بالصفات الحميدة, والأفعال الحسنة, فللّه تعالى الحمد, لأن جميع صفاته, يحمد عليها, لكونها صفات كمال, وأفعاله, يحمد عليها, لأنها دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه ويشكر, والعدل الذي يحمد عليه ويعترف بحكمته فيه.
وحمد نفسه هنا, على أن { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } ملكا وعبيدا, يتصرف فيهم بحمده. { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ } لأن في الآخرة, يظهر من حمده, والثناء عليه, ما لا يكون في الدنيا، فإذا قضى اللّه تعالى بين الخلائق كلهم, ورأى الناس والخلق كلهم, ما حكم به, وكمال عدله وقسطه, وحكمته فيه, حمدوه كلهم على ذلك، حتى أهل العقاب ما دخلوا النار, إلا وقلوبهم ممتلئة من حمده, وأن هذا من جراء أعمالهم, وأنه عادل في حكمه بعقابهم.
وأما ظهور حمده في دار النعيم والثواب, فذلك شيء قد تواردت به الأخبار, وتوافق عليه الدليل السمعي والعقلي، فإنهم في الجنة, يرون من توالي نعم اللّه, وإدرار خيره, وكثرة بركاته, وسعة عطاياه, التي لم يبق في قلوب أهل الجنة أمنية, ولا إرادة, إلا وقد أعطي فوق ما تمنى وأراد، بل يعطون من الخير ما لم تتعلق به أمانيهم, ولم يخطر بقلوبهم.
فما ظنك بحمدهم لربهم في هذه الحال, مع أن في الجنة تضمحل العوارض والقواطع, التي تقطع عن معرفة اللّه ومحبته والثناء عليه, ويكون ذلك أحب إلى أهلها من كل نعيم, وألذ عليهم من كل لذة، ولهذا إذا رأوا اللّه تعالى, وسمعوا كلامه عند خطابه لهم, أذهلهم ذلك عن كل نعيم, ويكون الذكر لهم في الجنة, كالنَّفس, متواصلا في جميع الأوقات، هذا إذا أضفت ذلك إلى أنه يظهر لأهل الجنة في الجنة كل وقت من عظمة ربهم, وجلاله, وجماله, وسعة كماله, ما يوجب لهم كمال الحمد, والثناء عليه.
{ وَهُوَ الْحَكِيمُ } في ملكه وتدبيره, الحكيم في أمره ونهيه. { الْخَبِيرُ } المطلع على سرائر الأمور وخفاياها ولهذا فصل علمه بقوله: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } أي: من مطر, وبذر, وحيوان { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من أنواع النباتات, وأصناف الحيوانات { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من الأملاك والأرزاق والأقدار { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة والأرواح وغير ذلك.
ولما ذكر مخلوقاته وحكمته فيها, وعلمه بأحوالها, ذكر مغفرته ورحمته لها, فقال: { وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } أي: الذي الرحمة والمغفرة وصفه, ولم تزل آثارهما تنزل على عباده كل وقت بحسب ما قاموا به من مقتضياتهما.
{ 3 - 5 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ }
لما بين تعالى, عظمته, بما وصف به نفسه, وكان هذا موجبا لتعظيمه وتقديسه, والإيمان به, ذكر أن من أصناف الناس, طائفة لم تقدر ربها حق قدره, ولم تعظمه حق عظمته, بل كفروا به, وأنكروا قدرته على إعادة الأموات, وقيام الساعة, وعارضوا بذلك رسله فقال: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي باللّه وبرسله, وبما جاءوا به، فقالوا بسبب كفرهم: { لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } أي: ما هي, إلا هذه الحياة الدنيا, نموت ونحيا. فأمر اللّه رسوله أن يرد قولهم ويبطله, ويقسم على البعث, وأنه سيأتيهم، واستدل على ذلك بدليل من أقرَّ به, لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة, وهو علمه تعالى الواسع العام فقال: { عَالِمِ الْغَيْبِ } أي: الأمور الغائبة عن أبصارنا, وعن علمنا, فكيف بالشهادة؟".
ثم أكد علمه فقال: { لَا يَعْزُبُ } أي: لا يغيب عن علمه { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } أي: جميع الأشياء بذواتها وأجزائها, حتى أصغر ما يكون من الأجزاء, وهو المثاقيل منها.
{ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي: قد أحاط به علمه, وجرى به قلمه, وتضمنه الكتاب المبين, الذي هو اللوح المحفوظ، فالذي لا يخفى عن علمه مثقال الذرة فما دونه, في جميع الأوقات, ويعلم ما تنقص الأرض من الأموات, وما يبقى من أجسادهم, قادر على بعثهم من باب أولى, وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط.
ثم ذكر المقصود من البعث فقال: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم, صدقوا اللّه, وصدقوا رسله تصديقا جازما، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } تصديقا لإيمانهم. { أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } لذنوبهم, بسبب إيمانهم وعملهم, يندفع بها كل شر وعقاب. { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } بإحسانهم, يحصل لهم به كل مطلوب ومرغوب, وأمنية.
{ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي: سعوا فيها كفرا بها, وتعجيزا لمن جاء بها, وتعجيزا لمن أنزلها, كما عجزوه في الإعادة بعد الموت. { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } أي: مؤلم لأبدانهم وقلوبهم.
{ 6 } { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }
لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث, وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس بحق، ذكر حالة الموفقين من العباد, وهم أهل العلم, وأنهم يرون ما أنزل اللّه على رسوله من الكتاب, وما اشتمل عليه من الأخبار, هو الحق, أي: الحق منحصر فيه, وما خالفه وناقضه, فإنه باطل, لأنهم وصلوا من العلم إلى درجة اليقين.
ويرون أيضا أنه في أوامره ونواهيه { يَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } وذلك أنهم جزموا بصدق ما أخبر به من وجوه كثيرة: من جهة علمهم بصدق من أخبر به، ومن جهة موافقته للأمور الواقعة, والكتب السابقة، ومن جهة ما يشاهدون من أخبارها, التي تقع عيانا، ومن جهة ما يشاهدون من الآيات العظيمة الدالة عليها في الآفاق وفي أنفسهم ومن جهة موافقتها, لما دلت عليه أسماؤه تعالى وأوصافه.
ويرون في الأوامر والنواهي, أنها تهدي إلى الصراط المستقيم, المتضمن للأمر بكل صفة تزكي النفس، وتنمي الأجر، وتفيد العامل وغيره، كالصدق والإخلاص وبر الوالدين, وصلة الأرحام, والإحسان إلى عموم الخلق, ونحو ذلك. وتنهى عن كل صفة قبيحة, تدنس النفس, وتحبط الأجر, وتوجب الإثم والوزر, من الشرك, والزنا, والربا, والظلم في الدماء والأموال, والأعراض.
وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة, وعلامة لهم, وأنه كلما كان العبد أعظم علما وتصديقا بأخبار ما جاء به الرسول, وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه, كان من أهل العلم الذين جعلهم اللّه حجة على ما جاء به الرسول, احتج اللّه بهم على المكذبين المعاندين, كما في هذه الآية وغيرها.
{ 7 - 9 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ * أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }
أي: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } على وجه التكذيب والاستهزاء والاستبعاد، وذكر وجه الاستبعاد.
أي: قال بعضهم لبعض: { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يعنون بذلك الرجل, رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم, وأنه رجل أتى بما يستغرب منه, حتى صار - بزعمهم - فرجة يتفرجون عليه, وأعجوبة يسخرون منه، وأنه كيف يقول { إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ } بعدما مزقكم البلى, وتفرقت أوصالكم, واضمحلت أعضاؤكم؟!.
فهذا الرجل الذي يأتي بذلك, هل { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } فتجرأ عليه وقال ما قال, { أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } ؟ فلا يستغرب منه, فإن الجنون فنون، وكل هذا منهم, على وجه العناد والظلم, ولقد علموا, أنه أصدق خلق اللّه وأعقلهم, ومن علمهم, أنهم أبدوا وأعادوا في معاداتهم, وبذلوا أنفسهم وأموالهم, في صد الناس عنه، فلو كان كاذبا مجنونا لم ينبغ لكم - يا أهل العقول غير الزاكية - أن تصغوا لما قال, ولا أن تحتفلوا بدعوته، فإن المجنون, لا ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره, أو يبلغ قوله منه كل مبلغ.
ولولا عنادكم وظلمكم, لبادرتم لإجابته, ولبيتم دعوته, ولكن { مَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ } ولهذا قال تعالى: { بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } ومنهم الذين قالوا تلك المقالة، { فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ } أي: في الشقاء العظيم, والضلال البعيد, الذي ليس بقريب من الصواب، وأي شقاء وضلال, أبلغ من إنكارهم لقدرة اللّه على البعث وتكذيبهم لرسوله الذي جاء به, واستهزائهم به, وجزمهم بأن ما جاءوا به هو الحق, فرأوا الحق باطلا, والباطل والضلال حقا وهدى.
ثم نبههم على الدليل العقلي, الدال على عدم استبعاد البعث, الذي استبعدوه, وأنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم, من السماء والأرض فرأوا من قدرة اللّه فيهما, ما يبهر العقول, ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول, وأن خلقهما وعظمتهما وما فيهما من المخلوقات, أعظم من إعادة الناس - بعد موتهم - من قبورهم، فما الحامل لهم, على ذلك التكذيب مع التصديق, بما هو أكبر منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الآن, ما شاهدوه, فلذلك كذبوا به.
قال اللّه: { إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ } أي: من العذاب, لأن الأرض والسماء تحت تدبيرنا, فإن أمرناهما لم يستعصيا، فاحذروا إصراركم على تكذيبكم, فنعاقبكم أشد العقوبة. { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: خلق السماوات والأرض, وما فيهما من المخلوقات { لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }
فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى اللّه, كان انتفاعه بالآيات أعظم, لأن المنيب مقبل إلى ربه, قد توجهت إراداته وهماته لربه, ورجع إليه في كل أمر من أموره, فصار قريبا من ربه, ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته، فيكون نظره للمخلوقات نظر فكرة وعبرة, لا نظر غفلة غير نافعة.
{ 10 - 11 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
أي: ولقد مننا على عبدنا ورسولنا, داود عليه الصلاة والسلام, وآتيناه فضلا من العلم النافع, والعمل الصالح, والنعم الدينية والدنيوية، ومن نعمه عليه, ما خصه به من أمره تعالى الجمادات, كالجبال والحيوانات, من الطيور, أن تُؤَوِّب معه, وتُرَجِّع التسبيح بحمد ربها, مجاوبة له، وفي هذا من النعمة عليه, أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده, وأن ذلك يكون منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات, تتجاوب بتسبيح ربها, وتمجيده, وتكبيره, وتحميده, كان ذلك مما يهيج على ذكر اللّه تعالى.
ومنها: أن ذلك - كما قال كثير من العلماء, أنه طرب لصوت داود، فإن اللّه تعالى, قد أعطاه من حسن الصوت, ما فاق به غيره, وكان إذا رجَّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم الشجيِّ المطرب, طرب كل من سمعه, من الإنس, والجن, حتى الطيور والجبال, وسبحت بحمد ربها.
ومنها: أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها, لأنه سبب ذلك, وتسبح تبعا له.
ومن فضله عليه, أن ألان له الحديد, ليعمل الدروع السابغات, وعلمه تعالى كيفية صنعته, بأن يقدره في السرد, أي: يقدره حلقا, ويصنعه كذلك, ثم يدخل بعضها ببعض.
قال تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ }
ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله, أمره بشكره, وأن يعملوا صالحا, ويراقبوا اللّه تعالى فيه, بإصلاحه وحفظه من المفسدات, فإنه بصير بأعمالهم, مطلع عليهم, لا يخفى عليه منها شيء.
{ 12 - 14 } { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }
لما ذكر فضله على داود عليه السلام, ذكر فضله على ابنه سليمان, عليه الصلاة والسلام, وأن اللّه سخر له الريح تجري بأمره, وتحمله, وتحمل جميع ما معه, وتقطع المسافة البعيدة جدا, في مدة يسيرة, فتسير في اليوم, مسيرة شهرين. { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } أي: أول النهار إلى الزوال { وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } من الزوال, إلى آخر النهار { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } أي: سخرنا له عين النحاس, وسهلنا له الأسباب, في استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها.
وسخر اللّه له أيضا, الشياطين والجن, لا يقدرون أن يستعصوا عن أمره, { وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } وأعمالهم كل ما شاء سليمان, عملوه.
{ مِنْ مَحَارِيبَ } وهو كل بناء يعقد, وتحكم به الأبنية, فهذا فيه ذكر الأبنية الفخمة، { وَتَمَاثِيلَ } أي: صور الحيوانات والجمادات, من إتقان صنعتهم, وقدرتهم على ذلك وعملهم لسليمان { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } أي: كالبرك الكبار, يعملونها لسليمان للطعام, لأنه يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره ، " و " يعملون له قدورا راسيات لا تزول عن أماكنها, من عظمها.
فلما ذكر منته عليهم, أمرهم بشكرها فقال: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ } وهم داود, وأولاده, وأهله, لأن المنة على الجميع, وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم. { شُكْرًا } للّه على ما أعطاهم, ومقابلة لما أولاهم. { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } فأكثرهم, لم يشكروا اللّه تعالى على ما أولاهم من نعمه, ودفع عنهم من النقم.
والشكر: اعتراف القلب بمنة اللّه تعالى, وتلقيها افتقارا إليها, وصرفها في طاعة اللّه تعالى, وصونها عن صرفها في المعصية.
فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان, عليه الصلاة والسلام, كل بناء، وكانوا قد موهوا على الإنس, وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب, ويطلعون على المكنونات، فأراد اللّه تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى, فمكثوا يعملون على عملهم، وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلام, واتَّكأ على عصاه, وهي المنسأة، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها, ظنوه حيا, وهابوه.
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل, حتى سلطت دابة الأرض على عصاه, فلم تزل ترعاها, حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم، فلو علموا الغيب, لعلموا موت سليمان, الذي هم أحرص شيء عليه, ليسلموا مما هم فيه.
{ 15 - 21 } { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }
سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن, ومسكنهم بلدة يقال لها "مأرب" ومن نعم اللّه ولطفه بالناس عموما, وبالعرب خصوصا, أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين, ممن كان يجاور العرب, ويشاهد آثاره, ويتناقل الناس أخباره, ليكون ذلك أدعى إلى التصديق, وأقرب للموعظة فقال: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ } أي: محلهم الذي يسكنون فيه { آيَةٌ } والآية هنا: ما أدرَّ اللّه عليهم من النعم, وصرف عنهم من النقم, الذي يقتضي ذلك منهم, أن يعبدوا اللّه ويشكروه. ثم فسر الآية بقوله { جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } وكان لهم واد عظيم, تأتيه سيول كثيرة, وكانوا بنوا سدا محكما, يكون مجمعا للماء، فكانت السيول تأتيه, فيجتمع هناك ماء عظيم, فيفرقونه على بساتينهم, التي عن يمين ذلك الوادي وشماله. وتُغِلُّ لهم تلك الجنتان العظيمتان, من الثمار ما يكفيهم, ويحصل لهم به الغبطة والسرور، فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة، منها: هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما.
ومنها: أن اللّه جعل بلدهم, بلدة طيبة, لحسن هوائها, وقلة وخمها, وحصول الرزق الرغد فيها.
ومنها: أن اللّه تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر لهم وَيرحمهم, ولهذا قال: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }
ومنها: أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى الأرض المباركة, - الظاهر أنها: [قرى صنعاء قاله غير واحد من السلف, وقيل: إنها] الشام - هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليها, بغاية السهولة, من الأمن, وعدم الخوف, وتواصل القرى بينهم وبينها, بحيث لا يكون عليهم مشقة, بحمل الزاد والمزاد.
ولهذا قال: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي: [سيرا] مقدرا يعرفونه, ويحكمون عليه, بحيث لا يتيهون عنه { لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ } أي: مطمئنين في السير, في تلك الليالي والأيام, غير خائفين. وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم, أن أمنهم من الخوف.
فأعرضوا عن المنعم, وعن عبادته, وبطروا النعمة, وملوها، حتى إنهم طلبوا وتمنوا, أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى, التي كان السير فيها متيسرا.
{ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } بكفرهم باللّه وبنعمته, فعاقبهم اللّه تعالى بهذه النعمة, التي أطغتهم, فأبادها عليهم, فأرسل عليها سيل العرم.
أي: السيل المتوعر, الذي خرب سدهم, وأتلف جناتهم, وخرب بساتينهم، فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة, والأشجار المثمرة, وصار بدلها أشجار لا نفع فيها, ولهذا قال: { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ } أي: شيء قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعا { خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } وهذا كله شجر معروف, وهذا من جنس عملهم.
فكما بدلوا الشكر الحسن, بالكفر القبيح, بدلوا تلك النعمة بما ذكر, ولهذا قال: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } أي: وهل نجازي جزاء العقوبة - بدليل السياق - إلا من كفر باللّه وبطر النعمة؟
فلما أصابهم ما أصابهم, تفرقوا وتمزقوا, بعدما كانوا مجتمعين, وجعلهم اللّه أحاديث يتحدث بهم, وأسمارا للناس, وكان يضرب بهم المثل فيقال: "تفرقوا أيدي سبأ" فكل أحد يتحدث بما جرى لهم، ولكن لا ينتفع بالعبرة فيهم إلا من قال اللّه: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } صبار على المكاره والشدائد, يتحملها لوجه اللّه, ولا يتسخطها بل يصبر عليها. شكور لنعمة اللّه تعالى يُقِرُّ بها, ويعترف, ويثني على من أولاها, ويصرفها في طاعته. فهذا إذا سمع بقصتهم, وما جرى منهم وعليهم, عرف بذلك أن تلك العقوبة, جزاء لكفرهم نعمة اللّه, وأن من فعل مثلهم, فُعِلَ به كما فعل بهم، وأن شكر اللّه تعالى, حافظ للنعمة, دافع للنقمة، وأن رسل اللّه, صادقون فيما أخبروا به، وأن الجزاء حق, كما رأى أنموذجه في دار الدنيا.
ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين صدَّق عليهم إبليس ظنه, حيث قال لربه: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وهذا ظن من إبليس, لا يقين, لأنه لا يعلم الغيب, ولم يأته خبر من اللّه, أنه سيغويهم أجمعين, إلا من استثنى، فهؤلاء وأمثالهم, ممن صدق عليه إبليس ظنه, ودعاهم وأغواهم، { فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ممن لم يكفر بنعمة اللّه, فإنه لم يدخل تحت ظن إبليس.
ويحتمل أن قصة سبأ, انتهت عند قوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
ثم ابتدأ فقال: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ } أي: على جنس الناس, فتكون الآية عامة في كل من اتبعه.
ثم قال تعالى: { وَمَا كَانَ لَهُ } أي: لإبليس { عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي: تسلط وقهر, وقسر على ما يريده منهم, ولكن حكمة اللّه تعالى اقتضت تسليطه وتسويله لبني آدم.
{ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } أي: ليقوم سوق الامتحان, ويعلم به الصادق من الكاذب, ويعرف من كان إيمانه صحيحا, يثبت عند الامتحان والاختبار, وإلقاء الشبه الشيطانية, ممن إيمانه غير ثابت, يتزلزل بأدنى شبهة, ويزول بأقل داع يدعوه إلى ضده، فاللّه تعالى جعله امتحانا, يمتحن به عباده, ويظهر الخبيث من الطيب.
{ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } يحفظ العباد, ويحفظ عليهم أعمالهم, ويحفظ تعالى جزاءها, فيوفيهم إياها, كاملة موفرة.
{ 22 - 23 } { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
أي: { قُلْ } يا أيها الرسول, للمشركين باللّه غيره من المخلوقات, التي لا تنفع ولا تضر, ملزما لهم بعجزها, ومبينا لهم بطلان عبادتها: { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي: زعمتموهم شركاء للّه, إن كان دعاؤكم ينفع، فإنهم قد توفرت فيهم أسباب العجز, وعدم إجابة الدعاء من كل وجه، فإنهم ليس لهم أدنى ملك فـ { لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } على وجه الاستقلال, ولا على وجه الاشتراك, ولهذا قال: { وَمَا لَهُمْ } أي: لتلك الآلهة الذين زعمتم { فِيهِمَا } أي: في السماوات والأرض، { مِنْ شِرْكٍ } أي: لا شرك قليل ولا كثير, فليس لهم ملك, ولا شركة ملك.
بقي أن يقال: ومع ذلك, فقد يكونون أعوانا للمالك, ووزراء له, فدعاؤهم يكون نافعا, لأنهم - بسبب حاجة الملك إليهم - يقضون حوائج من تعلق بهم، فنفى تعالى هذه المرتبة فقال: { وَمَا لَهُ } أي: للّه تعالى الواحد القهار { مِنْهُمْ } أي: من هؤلاء المعبودين { مِنْ ظَهِيرٍ } أي: معاون ووزير يساعده على الملك والتدبير.
فلم يبق إلا الشفاعة, فنفاها بقوله: { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فهذه أنواع التعلقات, التي يتعلق بها المشركون بأندادهم, وأوثانهم, من البشر, والشجر, وغيرهم, قطعها اللّه وبيَّن بطلانها, تبيينا حاسما لمواد الشرك, قاطعا لأصوله، لأن المشرك إنما يدعو ويعبد غير اللّه, لما يرجو منه من النفع, فهذا الرجاء, هو الذي أوجب له الشرك، فإذا كان من يدعوه [غير اللّه], لا مالكا للنفع والضر, ولا شريكا للمالك, ولا عونا وظهيرا للمالك, ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك, كان هذا الدعاء, وهذه العبادة, ضلالا في العقل, باطلة في الشرع.
بل ينعكس على المشرك مطلوبه ومقصوده, فإنه يريد منها النفع، فبيَّن اللّه بطلانه وعدمه, وبيَّن في آيات أخر, ضرره على عابديه وأنه يوم القيامة, يكفر بعضهم ببعض, ويلعن بعضهم بعضا, ومأواهم النار { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
والعجب, أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل, بزعمه أنهم بشر, ورضي أن يعبد ويدعو الشجر, والحجر, استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان, ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه, طاعة لأعدى عدو له وهو الشيطان.
وقوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } يحتمل أن الضمير في هذا الموضع, يعود إلى المشركين, لأنهم مذكورون في اللفظ، والقاعدة في الضمائر, أن تعود إلى أقرب مذكور، ويكون المعنى: إذا كان يوم القيامة, وفزع عن قلوب المشركين, أي: زال الفزع, وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم, عن حالهم في الدنيا, وتكذيبهم للحق الذي جاءت به الرسل, أنهم يقرون, أن ما هم عليه من الكفر والشرك, باطل, وأن ما قال اللّه, وأخبرت به عنه رسله, هو الحق فبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وعلموا أن الحق للّه, واعترفوا بذنوبهم.
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ } بذاته, فوق جميع مخلوقاته وقهره لهم, وعلو قدره, بما له من الصفات العظيمة, جليلة المقدار { الْكَبِيرُ } في ذاته وصفاته.
ومن علوه, أن حكمه تعالى, يعلو, وتذعن له النفوس, حتى نفوس المتكبرين والمشركين.
وهذا المعنى أظهر, وهو الذي يدل عليه السياق، ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملائكة, وذلك أن اللّه تعالى إذا تكلم بالوحي, سمعته الملائكة, فصعقوا, وخروا للّه سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل, فيكلمه اللّه من وحيه بما أراد، وإذا زال الصعق عن قلوب الملائكة, وزال الفزع, فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلام الذي صعقوا منه: ماذا قال ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض: قال الحق, إما إجمالا, لعلمهم أنه لا يقول إلا حقا، وإما أن يقولوا: قال كذا وكذا, للكلام الذي سمعوه منه, وذلك من الحق.
فيكون المعنى على هذا: أن المشركين الذين عبدوا مع اللّه تلك الآلهة, التي وصفنا لكم عجزها ونقصها, وعدم نفعها بوجه من الوجوه, كيف صدفوا وصرفوا عن إخلاص العبادة للرب العظيم, العلي الكبير, الذي - من عظمته وجلاله - أن الملائكة الكرام, والمقربين من الخلق, يبلغ بهم الخضوع والصعق, عند سماع كلامه هذا المبلغ, ويقرون كلهم للّه, أنه لا يقول إلا الحق.
فما بال هؤلاء المشركين, استكبروا عن عبادة من هذا شأنه, وعظمة ملكه وسلطانه. فتعالى العلي الكبير, عن شرك المشركين, وإفكهم, وكذبهم.
24 - 27 } { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يأمر تعالى, نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم, أن يقول لمن أشرك باللّه ويسأله عن حجة شركه: { مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فإنهم لا بد أن يقروا أنه اللّه، ولئن لم يقروا فـ { قُلِ اللَّهُ } فإنك لا تجد من يدفع هذا القول، فإذا تبين أن اللّه وحده الذي يرزقكم من السماوات والأرض, وينزل [لكم] المطر, وينبت لكم النبات, ويفجر لكم الأنهار, ويطلع لكم من ثمار الأشجار, وجعل لكم الحيوانات جميعها, لنفعكم ورزقكم, فلم تعبدون معه من لا يرزقكم شيئا, ولا يفيدكم نفعا؟.
وقوله: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي: إحدى الطائفتين منا ومنكم, على الهدى, مستعلية عليه, أو في ضلال مبين، منغمرة فيه، وهذا الكلام يقوله من تبين له الحق, واتضح له الصواب, وجزم بالحق الذي هو عليه, وبطلان ما عليه خصمه.
أي: قد شرحنا من الأدلة الواضحة عندنا وعندكم, ما به يعلم علما يقينا لا شك فيه, من المحق منا, ومن المبطل, ومن المهتدي ومن الضال؟ حتى إنه يصير التعيين بعد ذلك, لا فائدة فيه، فإنك إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق, لسائر المخلوقات المتصرف فيها, بجميع أنواع التصرفات, المسدي جميع النعم, الذي رزقهم وأوصل إليهم كل نعمة, ودفع عنهم كل نقمة, الذي له الحمد كله, والملك كله, وكل أحد من الملائكة فما دونهم, خاضعون لهيبته, متذللون لعظمته, وكل الشفعاء تخافه, لا يشفع أحد منهم عنده إلا بإذنه العلي الكبير, في ذاته, وأوصافه, وأفعاله, الذي له كل كمال, وكل جلال, وكل جمال, وكل حمد وثناء ومجد، يدعو إلى التقرب لمن هذا شأنه, وإخلاص العمل له, وينهى عن عبادة من سواه, وبين من يتقرب إلى أوثان, وأصنام, وقبور, لا تخلق, ولا ترزق, ولا تملك لأنفسها, ولا لمن عبدها, نفعا ولا ضرا, ولا موتا ولا حياة, ولا نشورا، بل هي جمادات, لا تعقل, ولا تسمع دعاء عابديها, ولو سمعته ما استجابت لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم, ويتبرأون منهم, ويتلاعنون بينهم، ليس لهم قسط من الملك, ولا شركة فيه, ولا إعانة فيه، ولا لهم شفاعة يستقلون بها دون اللّه، فهو يدعو مَنْ هذا وصفه, ويتقرب إليه مهما أمكنه, ويعادي من أخلص الدين للّه, ويحاربه, ويكذب رسل اللّه, الذين جاءوا بالإخلاص للّه وحده، تبين لك أي الفريقين, المهتدي من الضال, والشقي من السعيد؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك ذلك, لأن وصف الحال, أوضح من لسان المقال.
{ قُلْ } لهم [ { لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي: كل منا ومنكم, له عمله أنتم] { لا تسألون } عن إجرامنا وذنوبنا لو أذنبنا, ونحن لا نسأل عن أعمالكم، فليكن المقصود منا ومنكم طلب الحقائق وسلوك طريق الإنصاف، ودعوا ما كنا نعمل, ولا يكن مانعا لكم من اتباع الحق، فإن أحكام الدنيا تجري على الظواهر, ويتبع فيها الحق, ويجتنب الباطل، وأما الأعمال فلها دار أخرى, يحكم فيها أحكم الحاكمين, ويفصل بين المختصمين, أعدل العادلين.
ولهذا قال: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا } أي: يحكم بيننا حكما, يتبين به الصادق من الكاذب, والمستحق للثواب, من المستحق للعقاب، وهو خير الفاتحين.
{ قُلْ } لهم يا أيها الرسول, ومن ناب منابك: { أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ } أي: أين هم؟ وأين السبيل إلى معرفتهم؟ وهل هم في الأرض, أم في السماء؟ فإن عالم الغيب والشهادة قد أخبرنا أنه ليس في الوجود له شريك.
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ } الآية { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ }
وكذلك خواص خلقه من الأنبياء والمرسلين, لا يعلمون له شريكا، فيا أيها المشركون أروني الذين ألحقتم بزعمكم الباطل باللّه { شُرَكَاءُ }
وهذا السؤال لا يمكنهم الإجابة عنه, ولهذا قال: { كَلَّا } أي: ليس للّه شريك, ولا ند, ولا ضد. { بَلْ هُوَ اللَّهُ } الذي لا يستحق التأله والتعبد, إلا هو { الْعَزِيزُ } الذي قهر كل شيء فكل ما سواه, فهو مقهور مسخر مدبر. { الْحَكِيمُ } الذي أتقن ما خلقه, وأحسن ما شرعه، ولو لم يكن في حكمته في شرعه إلا أنه أمر بتوحيده, وإخلاص الدين له, وأحب ذلك, وجعله طريقا للنجاة, ونهى عن الشرك به, واتخاذ الأنداد من دونه, وجعل ذلك طريقا للشقاء والهلاك, لكفى بذلك برهانا على كمال حكمته، فكيف وجميع ما أمر به ونهى عنه, مشتمل على الحكمة؟"