في حياتنا المعاصرة، تحيط بالإنسان العديد من الملوثات، سواء كانت ميكروبية (الفيروسات والبكتيريا والفطريات والطفيليات) أو غير ميكروبية (المبيدات الحشرية ومكسبات الطعم والرائحة وعوادم السيارات وما بها من رصاص والمواد المشعة والمؤينة)، وتحدث كل هذه الملوثات أثرًا مثبطًا للجهاز المناعي الذي خلقة الله ووزعه على الجسم بطريقة إستراتيجية لكي يحمي الجسم من الملوثات.
وفي المقابل، يلعب الغذاء دورًا هامًّا في رفع الحالة المناعية لجسم الإنسان. ومن أهم عناصر الغذاء؛ المواد البروتينية، حيث يأخذ منها الجسم ما يحتاجة لإعادة تجديد الخلايا والأنسجة التالفة، وأيضًا لتكوين الأجسام المناعية التي تحمي الجسم.
ويحتاج الجسم للعديد من المواد سواء كانت غذائية أو علاجية لزيادة كفاءته وفاعليته، وكلما كانت هذة المواد ذات منشأ طبيعي، فإنها لا تحدث لجسم الكائن الحي أية أضرار. ومن نعم الخالق علينا أنه خلق للإنسان مصادر طبيعية متعددة لكي يتناولها، وفي مقدمة هذه المواد، عسل النحل ومنتجات النحل. ولقد كرم الله النحل دون سواه من الحشرات، حيث خصص سورة باسمه في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(النحل:68-69).
إنه لمن عظمة الخالق أن يخرج من بطون النحل عددًا من المواد؛ منها العسل وصمغ العسل المعروف بـ”البروبيليس” وغذاء الملكات المعروف بـ”الشهد الملكي” وسم النحل والشمع، كما يجمع النحل حبوب اللقاح ويخلطها بالعسل ليكون مادة غذائية عالية القيمة. وكل يوم يبرهن العلم الحديث بالدليل القاطع، على عظمة القرآن الكريم وما به من آيات للإعجاز ليقف عليها أولو الألباب، ومن هذه الآيات؛ الفوائد الجمة لمنتجات النحل التي يكتشف المزيد منها يومًا بعد يوم.
بديع صنع الله
والنحل أمة دؤوبة في عملها، حيث تقطع شغالة النحل مسافة ثمانية كيلومترات لتجمع الرحيق، ناهيك بما يحدث داخل الخلية من أعمال كثيرة من تربية لصغار النحل وتنظيف الخلية وحراسة وخلافة، كما أن النحل طيب أكله حيث يجمع رحيق الأزهار والعصارات من الزهور وبراعم الأشجار. ولقد خلق الله هذه المملكة الحشرية، المتميزة في نظامها وحركتها وتعاونها مع زملائها فكانت آية من آيات خلق المولى تنطق ببديع صنعه. فالنظام التعاوني الفريد والحركة الدائمة والدؤوب لأفراد هذه الأمة، والتي لا تعرف الكسل أو الملل، من الدقة بمكان أن الأعباء والمهام تتوزع فيه حسب قدرة كل فرد فيها؛ فمنها ما هو مكلف بالدفاع، ويستميت في تأدية واجبه في سبيل الوطن الذي يقطن فيه، تلك هي طائفة نحل العسل التي كرمها المولى عز وجل. كما يمتاز هذا المجتمع بالنظام والنظافة التامة، حيث لا يترك النحل في خليته أيّ أقذار أو أوساخ… وكل هذه التفاصيل تدعونا إلى أخذ النحل قدوة لنا فنصبح في عملنا كتلة نشاط وحيوية لإسعاد أوطاننا. ولن يسعنا المقام في ذكر كل شيء عن النحل الذي كرمه الحق سبحانه وتعالى، لذلك حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يتمثل المؤمن به حيث قال: “مثل المؤمن مثل النحلة، إن أكلت أكلت طيبًا، وإن وضعت وضعت طيبًا” (رواه البيهقي). ولقد استخدم قدماء المصريين العسل ومنتجات النحل في العلاجات وأدوات التجميل، كما أستخدمها الكهنة في عمليات التحنيط وحفظ الجثث. والعسل كمادة فعالة دوائية استجلاها العلم الحديث والطب فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم سبّاقًا إلى استخدام العسل، سواء في العلاج أو في حفظ الصحة؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يشربه على الريق، وفي هذه السنة النبوية الحميدة فائدة عظيمة لما له من سر بديع لحفظ الصحة.
رسول الله كان سبّاقًا
ولعل ما نراه اليوم من مستحضرات للتجميل تحتوي تركيباتها على العسل، وكذلك من أدوية تستخرج مكوناتها من خلية النحل وتسهم في رفع الحالة المناعية للجسم، وزيادة القدرة على التركيز، وإعادة الحيوية والشباب، لخير دليل على هذا البعد “الاستباقي” للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أشار إلى فوائد العسل قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان.
ولأهمية منتجات النحل من الناحية الطبية، ذكر في السنه النبوية المطهرة؛ ففي سنن ابن ماجة مرفوعًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبة عظيم من البلاء”، كما ورد أيضًا: “عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن” (رواه ابن ماجة). كما أنه صلى الله عليه وسلم من حبه للعسل وما فيه من فوائد، فإنه كان يهدى إليه العسل، ويستدل على ذلك حديث جابر بن عبد الله قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم عسلاً تقسم بيننا لعقة لعقة، وأخذت لعقتي، ثم قلت يا رسول الله أزداد أخرى؟ فقال: “نعم”. وكما ورد في الصحيحين: عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: “إن كان في شيء من أدويتكم؛ أو يكون في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم؛ أو شربة عسل؛ أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي”. ولقد روي موقوفًا عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه: لا يشكو قرحة ولا شيئًا إلا جعل عليه عسلاً حتى الدمل. وعن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال الرسول: “اسقه عسلاً” فسقاه، ثم جاءه فقال: إني سقيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال له ثلاث مرات ثم جاء الرابعة فقال: “اسقه عسلاً”، فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال صلى الله عليه وسلم: “صدق الله وكذب بطن أخيك” فسقاه فبرأ. وكذلك عندما عرب بطن الشاكي لرسول الله، أي أصابه الإمساك، كان العلاج أيضًا بالعسل.
وظهرت فوائد منتجات نحل العسل من خلال الأبحاث العلمية الحديثة، وأيضًا النتائج المتحصل عليها من خلال الأبحاث التي قد قمتُ بإجرائها على منتجات نحل العسل وخاصة مادة البروبوليس. ومادة البروبوليس هي مادة حمضية لزجة قابلة للذوبان في بعض المذيبات العضوية والكحول، حيث تقوم شغالة النحل بجمعها من البراعم العليا وقلف الأشجار، وتقوم بإفرازها في الخلية كي تبطن بها العيون السداسية التي تضع بها العسل أو البيض، كما يستخدمها النحل في تقوية الأقراص الشمعية، وسد الشقوق، وتقوية الخلية، وتضييق بابها في الشتاء، كما تعد هذه المادة بمثابة الجهاز المناعي الفطري لخلية النحل، حيث تستخدم أيضًا في تغليف وتغطية الأعداء الذين ينفذون إلى الخلية بعد قتلها بمعرفة الحراس؛ وهؤلاء الأعداء دائمًا ما يكونون أكبر حجمًا لا يستطيع النحل التخلص منهم خارج الخلية، مثل الفئران والسحالي والفراشات.. وتغليف الأعداء بواسطة البروبوليس يمنع حدوث التعفن بالخلية؛ حيث أثبتت البحوث بالفعل، أن هذه المادة لها الخاصية المضادة للفيروسات والبكتيريا والفطريات علاوة على كونها منشطًا يزيد من كفاءة الجهاز المناعي.
أعلى كفاءة للجهاز المناعي
ولقد أجريت في المركز القومي للبحوث في القاهرة، عدد من الأبحاث العلمية الأخرى التي تناولت أهمية منتجات النحل، ومنها بحث درس تأثير صمغ النحل على الحالة المناعية للكتاكيت، حيث أسفرت النتائج عن زيادة في وزن الكتاكيت المعاملة بصمغ النحل بعد أسبوع، كما سجلت زيادة في وزن الغدة التيموثية بعد 14 يومًا من المعاملة حتى نهاية التجربة فضلاً عن زيادة طفيفة في الطحال، فيما سجلت اللوزات الأعورية وحوصلة فابريكس زيادة ملحوظة في الأسبوعين الآخرين من تجربة الكتاكيت المعاملة بصمغ النحل.
ولقد بان واضحًا أن أعلى نشاط لكفاءة الخلايا الأكولة للكتاكيت سجل في اليوم الرابع عشر من المعاملة، وكذلك تم رصد زيادة في معدل نشاط الخلايا الليمفاوية المتحورة للكتاكيت المعاملة بصمغ النحل المصري.
وأجريت دراسة ثانية حول تأثير صمغ النحل المصري الذي جمع من خلايا النحل، بالقرب من مدينة المنصورة في فترة الصيف، حيث استخلصت المواد الفعالة ودرست بكروماتوجرافيا الغاز وطيف الكتلة على الحالة المناعية للكتاكيت المحصنة بلقاح النيوكاسل، وأيضًا التغيرات التي تحدث في وزن الكتاكيت ووزن الأعضاء الليمفاوية. وأسفرت النتائج عن نتائج مشابهة للدراسة الأولى، حيث أظهرت بوجه عام زيادة في وزن الكتاكيت المحصنة والمعاملة بصمغ النحل.
ومن نتائج هاتين الدراستين يمكن القول، بأن صمغ النحل المصري أظهر كفاءة لرفع الحالة المناعية للكتاكيت المحصنة بالنيوكاسل، وأنه يمكن استخدام الصمغ كمنشط مناعي غير نوعي لرفع الحالة المناعية.
وفي دراسة أخرى، استهدفت معرفة تأثير صمغ النحل (البروبوليس) على السلالات اللقاحية المختلفة لفيروس مرض النيوكاسل والفيروس الضاري، فتبين أن إضافة صمغ النحل (300 مجم/مللتر) بتخفيفات عشرية إلى فيروس النيوكاسل، أدى إلى تناقص ملحوظ في المتوسط المعياري لإمكانية حدوث العدوى بعد حقنة في الأغشية الجنينية لأجنة البيض المخصب. كما استخدم اختبار التلزن المباشر على الشريحة لقياس تواجد الفيروس بالسائل الجنيني، وأسفرت النتائج أن 1/100 من تركيز صمغ النحل قد أحدثت أقل جرعة مميتة لأجنة البيض مع أقل تغير للسائل الجنيني. وكان التأثير واضحًا جدًّا في المتوسط المعياري لإمكانية حدوث العدوى على لقاحات لاسوتا وكولون (-30) وكذلك للفيروس الضاري.
وتقدم هذه النتائج معلومات جديدة عن نشاط البروبوليس كمادة مضادة لفيروس مرض النيوكاسل، وتشير أيضًا إلى أهمية هذا المنتج الطبيعي وإمكانية تطبيقة كعقار مضاد لفيروس مرض النيوكاسل، مما يفتح مجالاً لدراسة هذه المادة كمضاد فيروسي لعدد من الفيروسات الأخرى التى تصيب الإنسان.
كما أن تأثير بعض منتجات النحل على الاستجابة المناعية للكتاكيت المصابة بفيروس النيوكاسل الضاري، أظهرت نقصان معدل الوفيات في هذه الكتاكيت بعد معالجتها بصمغ النحل والعسل.
أثر مخفض لمستوى السكر بالدم
وأهمية صمغ العسل كبيرة ومتعددة. فلقد درس تأثيره على الفئران الطبيعية والمعداة، وتحديدًا على سكر الدم وجليكوجين الكبد وأيضًا كمضاد للبكتيريا، فتبين أن له أثرًا مثبطًا ومخفضًا لمستوى السكر بالدم ولجليكوجين الكبد، وإن كان محدودًا ما يفتح بابًا للأمل أمام مرضى السكر قد يتسع بمزيد من الدراسة والأبحاث.
وثببت أيضًا فاعلية صمغ النحل كمضاد للفطريات؛ حيث أثبتت التجارب كفاءة صمغ النحل في هذا المضمار، وإن تفاوتت تتفاوت تبعًا لنوعية الفطر، ويتراوح أقل تركيز مثبط بين 10 مجم/مل لفطر الأسبريجيليس فلافس إلى 30 مجم/مل لفطر الأسبريجيليس برازيتيكس.
خلاصة القول إن للعسل منافع عظيمة ومتعددة، يجب ألا نغفل أنه جلاء للبصر ويعالج عددًا من الأمراض التي تصيب العين، كما أنه إذا استن به يزيد من بياض الأسنان ويصقلها لما به من مواد فعالة، ويحفظ صحة اللثة لما به من مضادات للبكتيريا، وهو مزيل للآلام والالتهابات، معالج للحروق ومحفز لالتئام الجروح، كما أنه مدر للطمث، وتناوله على الريق يزيل البلغم، وتزداد فاعليته مع إضافة قليلة من عصير الليمون، وأيضًا يحدث العسل لينا فيدفع الفضلات من الأمعاء لما له من الخاصية الهيدروسكوبية، ومع شربه مع الماء يساعد في علاج قرحة المعدة لما به من مضادات للميكروبات، وينصح به كغذاء لعلاج مرضى الكبد خاصة المصابين بالالتهاب الكبدي الفيروسي…
لقد أثبت العلم اليوم كل هذه الفوائد الجمة لعسل النحل، وكأنها رسالة توضح للعالمين لماذا كرم المولى عز وجل هذه “الحشرة” في كتابه المجيد، فتبارك الله أحسن الخالقين إنه العليم الخبير.
بقلم / أحمد حجازي