قال عبد الله بن المقفع:
وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجساداً وأوفر مع أجسادهم أحلاماً، وأشد قوة وأحسن بقوتهم للأمور إتقاناً، وأطول أعماراً، وأفضل بأعمارهم للأشياء اختباراً، فكان صاحب الدين منهم أبلغ من أمر الدين علماً وعملاً من صاحب الدين منا، وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل، ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به الكتب الباقية، وكفونا به مؤونة التجارب والفطن، وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يُفتح له الباب من العلم، والكلمة من الصواب، وهو بالبد غير المأهول، فيكتبُه على الصخور مبادرة منه للأجل، وكراهية لأن يسقط ذلك على من بعده. فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده، الرحيم بهم، الذي يجمع لهم الأموال والعقد؛ إرادة أن لا تكون عليهم مؤونة في الطلب، وخشية عجزهم إن هم طلبوا.
فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمن أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان مُحسنينا أن يقتدي بسيرتهم وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم فيكون كأنه إياهم يحاور ومنهم يستمع.
الدُرة اليتيمة- في الحكم والأخلاق والأدب / من حكم عبدالله بن المقفع
https://goo.gl/NIAwp5