كاد قلبي يطير
العقل إذا صفا، وتحرر من قيود التقليد والتبعية سلَّم قياده للأدلة العقلية الصحيحة التي تخاطبه، واستجاب لما تدعو إليه من الحقيقة التي قد تغيبها بيئة الباطل، أو التقليد للآباء أو المعظَّمين.
وقد عُني القرآن الكريم بعرض الأدلة العقلية التي تدعو ذوي الألباب إلى التوحيد والإيمان، وإثبات البعث والحساب، والتصديق بالقرآن، ومن أُنزل عليه القرآن العظيم.
وفي مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم عقب غزوة بدر كان هناك موعد لإشراق دليل عقلي قاطع أثبت في لب أحد المشركين: أنه لا بد للمخلوق من خالق، وللمحدَث من محدِث، وللمصنوع من صانع.
فالإنسان مخلوق لا خالق، وموجود لا موجِد، فمن خلقه وأوجده هو من يستحق عبادته دون شريك.
كان من نتائج غزوة بدر الطيبة:
أسرُ عدد من المشركين الذين قبل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم الفداء، فجاء من أجل فداء الأسرى رجل من قريش كان يعدُّ من أكابر علماء النسب فيها، بل كان أنسبَ قريش لقريش والعرب قاطبة، بعد أبي بكر رضي الله عنه؛ إذ هو تلميذه، فقد قال عن نفسه: " أخذت النسب عن أبي بكر الصديق". وقد كان لأبي هذا الرجل العظيم يدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان رسول الله في مكة؛ فإنه لما جاء ابنه لفداء الأسرى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو كان أبوك حيًّا وكلمني فيهم لوهبتهم له). فأبوه كان ممن شارك في نقض الصحيفة الجائرة، وهو الذي استجار به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول مكة حين رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف، فقد " تسلَّح المطعم ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت؛ فإني قد أجرت محمدًا، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهي إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يَهِجْه أحد منكم".
صاحبُنا هذا الذي هدته آياتُ سورة الطور هو الصحابي الجليل: جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي، أبو عدي.
وقصة هدايته: أنه جاء المدينة وصادف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور، ففتح لها سمعه وقلبه، فجعل ينصت إلى القراءة بقلب عقول، وأنوار الهداية شرعت تتسلل إلى نفسه من مشكاة تلك الآيات الباهرة، وبذلك الصوت النبوي الندي، حتى وصل إلى البرهان العقلي الدامغ الذي لا يرفضه عاقل منصف حتى كاد قلبه أن يطير إلى الإسلام.
يقول جبير رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الطور:35].كاد قلبي أن يطير". وعند الطبراني والبيهقي وأبي يعلى وأحمد: "فكأنما صدع قلبي".
ولسائل أن يسأل: لماذا عند هذه الآيات ظهر الأثر جليًا على قلب أبي عدي رضي الله عنه وقد سمع قبلها آيات أول السورة الكريمة، فما معنى هذه الآيات التي طيرت قلبه وصدعته؟
قال ابن كثير: "هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية فقال تعالى: ﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ أي: أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم، أي: لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً".
وقال ابن حجر: " قال الخطابي: كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه، وذلك من قوله تعالى: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ﴾ قيل: معناه: ليسوا أشد خلقًا من خلق السماوات والأرض؛ لأنهما خلقتا من غير شيء، أي: هل خلقوا باطلاً لا يؤمرون ولا ينهون؟ وقيل: المعنى: أم خلقوا من غير خالق؟ وذلك لا يجوز فلا بد لهم من خالق، وإذا أنكروا الخالق فهم الخالقون لأنفسهم، وذلك في الفساد والبطلان أشد؛ لأن ما لا وجود له كيف يخلق، وإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقًا. ثم قال: ﴿ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ أي: إن جاز لهم أن يدعوا خلق أنفسهم فليدعوا خلق السماوات والأرض، وذلك لا يمكنهم، فقامت الحجة. ثم قال: ﴿ بَل لا يُوقِنُونَ ﴾ فذكر العلة التي عاقتهم عن الإيمان وهو عدم اليقين الذي هو موهبة من الله ولا يحصل إلا بتوفيقه؛ فلهذا انزعج جبير حتى كاد قلبه يطير، ومال إلى الإسلام".
لقد بقي جبير بن مطعم في صراع مع نفسه جراء تأثير هذه الآيات العظيمة فيه؛ فإنه لم يسلم حينها، بل تأخر إسلامه، فقيل: إنه أسلم عام خيبر، وقيل: بعد الحديبة، وقيل: عام الفتح. قال ابن كثير: " فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك".
توفي جبير بن مطعم رضي الله عنه سنة: (57ه)، وقيل: (58ه)، وقيل: (59ه).
دروس من قصة الهداية:
1- في القصة بيان أهمية إسماع القرآن واستماعه، وتدبره والإنصات له، فعلى أهل الحق إسماعه للبعيدين عن الهداية بالوسائل التي يستطيعونها، كما أن استماع القرآن وتدبره يعين على الاهتداء به، واتباع الحق الذي يدعو إليه.
2- لأدلة الحق العقلية أثر عظيم في إثبات الحق والإقناع به، والقرآن الكريم زاخر بهذا النوع من البراهين، التي تقرر الإيمان، وتجادل عنه.
3- إيصال الحقيقة لغير المسلمين له أهمية كبيرة؛ فقد توجد حوائل عندهم شوهت لهم الحقيقة، فوصولها من مصدرها الصحيح إليهم على الصورة الصحيحة أدعى لقبولها.
4- لا يستعجل الداعية على إسلام الكافر أو هداية العاصي اللذين أوصل إليهما الحق، فقد يلبثان في صراع نفسي ومدارسة قلبية وعقلية حتى يبزغ النور في قلوبهما بعد حين إن أراد الله لهما الهداية، فجبير رضي الله عنه لم يسلم إلا بعد سنوات.
قد يقود الإنسانُ الضال خطاه لمصلحة دنيوية فيبزغ له من خلالها صباح الهداية الذي ينقذه من دياجير الضلالة، ولم يكن في حسبانه الوصول إليه.