تُبهرني تلك النفوس الراقية التي تتعامل مع الله في كل عمل تقوم به، لا تنتظر شكرًا ولا ثناءً من أحد، خاصة الأعمال التي تحتاج بذلًا من الجهود وعطاءً، شعارُها ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]، فما السِّرُّ الذي يكمن في تلك النفوس مع أن الأصل في النفس البشرية حُبُّ الثناء والمدح من الآخرين؟!
السِّرُّ أن هذه النفوس تاقَتْ إلى معالي الهِمَم، وطمِعت فيما عند الله من الجزاء الجزيل؛ قال الله عز وجل على لسان حالهم: ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 10]، الخوف من الله في يوم تكلح فيه وجوه الأشقياء لشدَّتِه وفظاعته، سلِّم يا رب.
فما كان جزاؤهم؟!
خلَّد الله ذكرهم في القرآن؛ حيث أعطاهم ما تمنَّوه، وصرف عنهم العذاب: ﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 11، 12].
فيا له من أجر يفوق ما قدَّموا؛ لأنهم تعامَلُوا مع الله وليس البشر، وصبروا على أذى النفس الأمَّارة بالسُّوء التي تُحِبُّ الثناء.
وترى أناسًا آخرين عكس ذلك يعملون المعروف، يمدُّون يد العون لإخوانهم وفي نفوسهم ينتظرون مكالمةً تشكرهم على صنيعهم، أو رسالةً نصيَّةً مكتوبةً بالصيغة التي يريدونها؛ حتى يشعُروا أنك قابلت الإحسان بالإحسان، وأدَّيْتَ ما عليك، كأن العطاء صار دَينًا تدفعه وليس معروفًا، فيا عجبي! ما تلك النفوس التي لا ترى إلا سفاسف الأمور، وتنتظر فقط الشكر والمدح من الناس؟! كم أشعر بالشَّفقة لمن كان هدفُه قصيرًا، لا يرى إلا الدنيا وينسى الدار الآخرة! نسأل الله العفو والعافية.
أما مَنْ عرَف حجم هذه الدنيا وقيمتها، تعامَلَ مع الذي يُعطي الجزاء غير المقطوع، فكان العطاء من جنس العمل: ﴿ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 108].
قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 108]، نسأل الله تعالى أن يبارك في أعمالنا، ويرزُقنا الإخلاصَ فيه.
أسألُ الله أن يَجزيَ كلَّ من يعمَل بالخفاء، ولا يدري عنه أحدٌ، ولا ينتظر شكرًا وثناءً من الناس، أن ترزُقهم بهاءً ونورًا في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم؛ إنك ولي ذلك والقادر عليه، اللهم آمين.