بين ركامٍ هائلٍ من تدنِّي الأخلاق، وتدنُّس المبادئ وضعف النفوس، وخور العزائم، نُفتِّش عن الأبطال ونصنع الرجال، نتعلم كيف نستخرج دفائنها، ونُشعِل مواهبَها، ونستخرج خبء العبقرية المستكنة فيها، ونبعث فيها روح الإسلام من جديد.
لا نريد تأليف الكتب؛ بل نريد أن نُسطِّر بالمداد رجالًا على أرض الواقع يُؤلِّفُون الحياة، ويبنون المستقبل، ويأخذون بيد أمَّتِهم على دَرْب النجاة، يتعاملون بأخلاق الإسلام، ويَتَصرَّفون من منطلق مبادئه، ويسعون جاهدين لإعلاء كلمته، وحفظ كرامته.
إنها الأُمُّ صانعة الرجال ومُربية الأبطال، والفرق واضح جدًّا بين مُربية مقبلة على العلم ومشتغلة بتهذيب أولادها وتعليمهم، وأخرى منصرفة إلى الزينة، مضيعة وقتها في الأسواق والزيارات.
لقد أخرج لنا العالم الإسلامي عبر العصور الغابرة نماذجَ رائعةً لمحدِّثاتٍ وفقيهاتٍ وعالمات، فلماذا تجتاح الأُميَّةُ اليوم نساءنا وبناتنا في هذا الزمان المتقدِّم تكنولوجيًّا، والمتسارع حضاريًّا ومعرفيًّا؟!
لقد كانت حجرات أُمُّهات المؤمنين منارات يُهتدى بها في ظُلُمات الليل البهيم، يقصدها القاصي والداني؛ للنَّهْل من مَعِين العلم الصافي، ومهبط الوحي الأمين؛ فعائشة رضي الله عنها أخذ عنها وحْدَها نصف العلم، وأمُّ سلمة وزينب بنت جحش من فقهاء الصحابيَّات، ومن نساء المؤمنات: أسماء بنت أبي بكر، وأسماء بنت عميس، وغيرهن الكثيرات، يَفِدُ إليهنَّ الناس يستفتونهن في أمور دينهم، ويحتكمون إليهنَّ عند الخلاف، لقد كانت المرأة المسلمة على مدار التاريخ أُمًّا متميِّزة أخرجت العلماء والزُّهَّاد والعُبَّاد.
إنها الأُمُّ:
التي ربَّتْ عبدالله بن الزبير حتى صمد في وجه الحجَّاج حتى استشهد.
وهي أُمُّ معاوية حين قيل لها: "إن عاش سيسود قومَه"، فردَّتْ قائلة بكُلِّ عِزَّة: "ثكلْتُه إنْ لم يَسُدْ إلَّا قومَه".
وهي أُمُّ البخاري الذي نشأ في حجرها يتيمًا، فتعاهَدَتْ تربيتَه، ودفعَتْه لطلب علم الحديث، وسافرت معه، وأنفقت عليه.
وهي أُمُّ الشافعي حين رَعَتْه يتيمًا، ورفضت الزواج؛ لتكمل تربيته على أحسن وجه.
وهي أُمُّ سفيان الثوري حين قالت له: "اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي".
وهي شيخة ابن حزم، والخطيب البغدادي، وابن بطوطة، والسيوطي.
إنه الفهم العميق والاستيعاب الدقيق، وهو الإيمان حين خالط قلبها، فاستعذَبَت التضحية في سبيله بما عَزَّ عليها من وقتٍ ومالٍ وجهدٍ.
لقد آمنَتْ بنفسِها وقُدْراتها التي حباها الله بها لتربية أولادها ومواجهة هذه الحياة، فأخرجت رجالًا حملوا مشاعل الحضارة، وصنعوا أحداث التاريخ؛ بل صار التاريخ أمامهم مُتضائلًا صغيرًا.
لقد خسرت أُمَّتُنا الكثيرَ حين ترك الأمهات أماكنهن شاغرات، وخَرَجْنَ وراء العمل والأسواق ومزاحمة الرجال في الطُّرُقات زَعْمًا منهن إثبات الذات.
وإن هذه الأُمَّة لا يصلح آخرُها إلا بما صلح به أوَّلها؛ فكيف تخرج الأبطال وتُربِّي الأجيال مَنْ تسعى لأن تكون دُميةً تُكسى بالملابس الفاخرة، وتمثالًا مُتأنِّق الصُّنْع في قسماته وملامحه؛ لكنه حجري لا روح فيه ولا حياة؟!
لقد ارتقى الإسلام بالمرأة أن تكون مجرد شهوة تنقضي، أو واجهة لإعلان مبتذل، أو حقلًا للتجارب الاجتماعية والإنسانية الفاسدة؛ بل جعلها مصنع الرجال، ومنشأ الصناديد الأبطال، فقَرِّي عينًا، وطيبي نفسًا يا أُمَّ الكرام ومُربية الأعلام، وأدِّي دورَكِ دون توانٍ أو نُقْصان، فأنت لو تعلمين على ثَغْرٍ من ثغور الإسلام.
أعانَكِ الله، وسدَّدَ خُطاكِ، وباركَ جهودَكِ.