من الدلالات العلمية للآيات الكريمة :
أولاً : "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ" :
(الطَّعَام) و(الطُّعْمُ) هو كل ما يؤكل, و(الطَّعْمُ) تناول الغذاء, و(الطعمة) المأكلة, ويقال: ( طَعِمَ)( طَعْمَاً) إذا أكل أو ذاق فهو( طَاعِم) . و(اسْتَطْعَمَهُ) أي سأله أن يطعمه فأطعمه .
وقد يستعمل الفعل( طَعِمَ) في الشراب أيضاًٍ لقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ على لسان طالوت لجنوده :" ... آ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي"(البقرة:249) وقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وصفه لماء زمزم " إنه طعام طعم وشفاء سقم " .
ولذلك بدأت هذه المجموعة من الآيات التي تتحدث عن الطعام في سورة عبس بقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ :" أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً " (عبس:25) .ومن الثابت علمياً أن الماء سابق في وجوده على خلق الحياة؛ لأن الحياة الأرضية التي نعرفها لا تقوم بغير الماء الذي أخرجه ربنا ـ تبارك وتعالى ـ من داخل الأرض . صدق الله العظيم إذ يقول :" وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا . أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا "(النازعات30 ،31) .
وعلى الماء قامت حياة كلٍ من النبات والحيوان والإنسان، وأعد الله ـ تعالى ـ للإنسان كل صنوف الطعام التي يحتاجها في حياته, ومن هنا كانت الإشارة إليه لينظر إلى طعامه نظر تدبر وتفكر واعتبار .
ثانياًً : " أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً " :
تعتبر دورة الماء حول الأرض من دلالات طلاقة القدرة الإلهية, فقبل إخراج ماء الأرض من داخلها عبر فوهات البراكين, كان الله ـ تعالى ـ قد هيَّأها سقفاً بارداً تتكثف عنده، وهو الحد العلوي لنطاق الرجع ـ نطاق التغيرات المناخية ـ الذي تصل عنده درجة الحرارة فوق خط الاستواء إلى(60) درجة تحت الصفر, ولولا هذه الحقيقة، لارتفع بخار الماء المتصاعد من الأرض إلى طبقات الجو العليا وانفلت من نطاق جاذبية الأرض إلى فسحة الكون, ولو حدث ذلك ما كنا ولا كانت الحياة من حولنا على الإطلاق .وعند وصول بخار الماء المتصاعد من الأرض إلى الحد الأعلى لنطاق الرجع تكثف وعاد إلى الأرض مطراًً, وساعد تكرر نزول المطر على تبرد الغلاف الصخري للأرض, كما ساعد على سيلان الماء على سطح الأرض شاقاً أودية له على هيئة أعداد من الأنهار والجداول, وعلى تحركه إلى منخفضات الأرض ليملأها بالماء مكوناً البحار والمحيطات والبحيرات وغير ذلك من تجمعات الماء على سطح الأرض, وبمجرد تكون ذلك بدأت أشعة الشمس في تبخير هذا الماء ليرتفع على هيئة بخار يُعلَّق بأجزاء من الغلاف الغازي للأرض مكوناً السحب التي يتكثف منها الماء ليعود إلى الأرض مطراًً, وبَرَدَاً, وثلجاً .
وقد استمرت دورة الماء حول الأرض منذ أن أخرج الله ـ تعالى ـ منها ماءها، وسوف تستمر إلى أن يرث الأرض ومن عليها .
وبهذه الدورة المعجزة التي يتحرك بها الماء من غلاف الأرض المائي إلى غلافها الهوائي ليتطهر مما يتجمع فيه من ملوثات ومواد يذيبها من الغلاف الصخري للأرض, أو تعلق به أثناءَ جريانه على سطحها, أو من بقايا بلايين الكائنات الحية التي تحيا وتموت في الأوساط المائية .
وتمتد دورة الماء من نحو الكيلو متر الواحد تحت سطح الأرض إلى ارتفاع يقدر بنحو خمسة عشر كيلو متراً فوق مستوى سطح البحر, فتعمل على تطهير الماء, وتلطيف الجو, وتوفير نسبة معينة من الرطوبة في كلٍ من الغلاف الغازي للأرض وتربتها تحتاج إليه غالبية صور الحياة ـ إن لم تكن جميعها ـ خاصة في المناطق الصحراوية .
وبواسطة هذه الدورة المائية التي استمرت على مدار عمر الأرض المقدر بنحو خمسة بلايين من السنين تمت تسوية سطح الأرض, وشق الفجاج والسبل فيها, كما تم تفتيت الصخور, وتكوين كلٍ من التربة والصخور الرسوبية, وخزن قدر من هذا الماء فيها وفي غيرها من صخور قشرة الأرض, وتكوين أعداد من الصخور الاقتصادية والركازات المعدنية المهمة .
ولولا هذا الإعداد الرباني الدقيق ما أنبتت الأرض, ولا كانت صالحة للعمران, ولذلك يمنُّ علينا ربنا ـ وهو صاحب الفضل والمنة ـ بقوله : " أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً " (عبس:25)، أي أنزلنا الغيث من السماء إنزالاً؛ لأن صب الماء هو إراقته من أعلى, والصبيب هو المصبوب من المطر وإن استعمل لغيره من السوائل, فإذا علمنا أن كمية الماء الأرضي تقدر بنحو1.4 بليون كيلو متر مكعب, وأن من هذه الكمية الهائلة التي أخرجها ربنا ـ تبارك وتعالى ـ لنا من داخل الأرض, يتبخر سنوياً 380 ألف كيلو متر مكعب, ثم تعود كلها إلى الأرض مرة أخرى مطراً طهوراًً, يوزعه الله ـ تعالى ـ بعلمه, وحكمته, وقدرته . إذا علمنا ذلك لأدركنا قيمة هذه النعمة الإلهية الكبرى التي وصفها الحق ـ تبارك وتعالى ـ بقوله : " أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً " ، وقوله ـ عز من قائل : " وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً . لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً " ( الفرقان:48, 49) .
ثالثاً:" ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقاًّ" :
ترد كلمة الأرض في القرآن الكريم بثلاثة معانٍ محددة لتعني كوكب الأرض في مجمله, أو الغلاف الصخري المكون لليابسة التي نحيا عليها, أو قطاع التربة الذي يغطي ذلك الغلاف الصخري في بعض أجزائه, كما هو واضح من الآية الكريمة التي نحن بصددها لقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : " ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً . فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً " ؛ وذلك لأن الحب لا ينبت إلا في التربة, وكذلك الغالبية الساحقة من النباتات .
وتتكون تربة الأرض بالتفاعل المعقد بين أغلفتها الصخرية والمائية والهوائية والحيوية, مما يؤدي إلى التفكك الفيزيائي والتحلل الكيميائي والحيوي لصخور الأرض بواسطة عوامل التعرية المختلفة, وتلعب الكائنات الحية ـ مثل البكتيريا, والفطريات, والطحالب, وجميع النباتات, وبعض الحيوانات ـ دوراً رئيسياً في تكون التربة التي تعتبر مصدر الغذاء والماء لحياة كل النباتات الأرضية, بل لحياة كلٍ من الإنسان والحيوان .
وتتكون التربة الأرضية في قطاعها العلوي ـ أساساً ـ من معادن الصلصال, وحبات الرمل, وأكاسيد الحديد, وكربونات كلٍ من الكالسيوم والمغنيسيوم, وإن كانت أنواع التربة تتعدد تعدداً هائلاً بتعدد أنواع الصخور التي تنشأ عنها, والظروف الطبيعية والكيميائية التي تتعرض لها, وأنواع الكائنات الحية التي تزخر بها, والتي تلعب أدواراً رئيسية في إعدادها .
وعلى الرغم من ذلك تبقى المعادن الصلصالية قاسماً مشتركاً في معظم أنواع تربة الأرض . والمعادن الصلصالية لها شراهة شديدة للماء, فإذا وصلها امتصته بسرعة فتميأت، مما يؤدي إلى زيادة حجمها، فتهتز وتربو إلى أعلى حتى ترق رقة شديدة, فتنشق لتفسح طريقاً آمناً لسويقة ـ ريشة ـ النبتة المنبثقة داخلَ البذرة النابتة المدفونة في التربة, ومن هنا كانت تلك الإشارة القرآنية المعجزة في هذه السورة المباركة التي جمعت بين صب الماء وشق الأرض والإنبات في تسلسل دقيق معجز يقول فيه ربنا ـ تبارك وتعالى ـ :
" أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً . فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً " ( عبس:25 ـ27) .
ومن أسباب اهتزاز التربة وارتفاعها حتى تنشق دقة حجم حبيبات المعادن الصلصالية ( أقل من0.004 من الملليمتر) التي تتحول إلى الحالة الغروية بمجرد اختلاط الماء بها بكمية كافية, وهي حالة تتدافع فيها جسيمات المادة بقوة وأقدار غير متساوية في جميع الاتجاهات, وعلى كل المستويات في حركة دائبة تؤدي إلى اهتزاز التربة وانتفاخها وانتفاضها بشدة حتى تنشق, وكلما زادت كمية الماء المختلط بالتربة زاد اهتزازها وارتفاعها وسارع ذلك في تشققها بإذن الله .
رابعاًً : " فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ؛ وَعِنَباً وَقَضْباً . وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً . وَحَدَائِقَ غُلْباً . وَفَاكِهَةً وَأَبّاً . مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ " :
هذا التسلسل المعجز في ست آيات قصار يكاد يشمل جميع النباتات التي تصلح طعاماً ومتاعاً لكلٍ من الإنسان وأنعامه ..
(1) فالكلمة: " حَباًّ " تشمل جميع أنواع الحبوب ( من ذوات الفلقة الواحدة) ، مثل القمح, والشعير, والشوفان, والذرة, والأرز, وغيرها, وتنطوي هذه النباتات في عائلة واحدة تعتبر من أكثر النباتات نجاحاً؛ لأنها تسود مساحات من اليابسة أكثر من أية نباتات أخرى, وتعرف هذه العائلة باسم عائلة النجيليات ـ العائلة النجيلية ـ وتشمل نحو سبعة آلاف نوع من أنواع النباتات, وهي أهم عائلة نباتية بالنسبة لكلٍ من الإنسان والحيوانات آكلة الأعشاب ـ كالأنعام ـ لأن جميع أنواع الحبوب اللازمة لحياة كلٍ منهما تنطوي في هذه العائلة, وقد أنبتها الله ـ سبحانه وتعالى ـ قبل خلق الإنسان بملايين السنين, وأخذ الإنسان في زراعتها منذ أيام ما قبل التاريخ .
وبالإضافة إلى هذه المحاصيل المهمة من الحبوب تضم عائلة النجيليات محاصيل أخرى مهمة ، مثل قصب السكر, وأعشاب المراعي ـ منها الحولية والمعمرة ـ كما تضم بعض النباتات الخشبية ، مثل نبات الخيزران .
(2) والتعبير القرآني :"وَعِنَباً وَقَضْباً " :
أيضاً تعبير معجز؛ لأن ( العنب) يشير إلى رتبة كاملة من نباتات الثمار المهمة هي رتبة العنَّابيات, وتشمل عائلتين مهمتين، هما: عائلة العناب : وتشمل(45) جنساً و(550) نوعاً من أنواع النباتات واسعة الانتشار ، مثل العناب والنبق, وعائلة الأعناب : وتشمل(11) جنساًً, و(600) نوع من أنواع العنب، وهو واحد من أهم المحاصيل النباتية .أما( القضب) و(القضبة) فهو الرطب من ثمار النبات, و(القضب) هو القطع, و(اقتضبه) أي اقتطعه, ولذا استعير( القضب) لما يقضب من النبات ليأكله الإنسان غضاً طرياً ، كالبقول التي تقطف ثمارها فينبت مكانها, أو تقطف النبتة فينبت أصلها, وفي ذلك إشارة إلى العائلة البقولية, وهي ثاني أكبر عائلة نباتية بذرية يعتمد عليها كلٌ من الإنسان وأنعامه في طعامه بعد العائلة النجيلية, وهي عائلة نباتاتها منتشرة في جميع أنحاء العالم, وتشمل نحو(600) جنس, و(12.000) نوع من أنواع النباتات ذات الفلقتين، وتشمل ـ فيما تشمل ـ الفول, العدس, الحمص, الفاصوليا, اللوبيا, البازلاء, فول الصويا, الفول السوداني, الترمس, الحلبة, الخروب, التمر هندي, وغيرها, وكلها من ذات الثمار القرنية, ولذلك تعرف أحياناً باسم العائلة القرنية .
كذلك تشمل هذه العائلة نبات البرسيم الحجازي (الذي يعتبر علفاً رئيسياً للحيوانات آكلة الأعشاب كالأنعام) , وغيرها من أعشاب المراعي والأعلاف, ونباتات الزهور, والنباتات الطبية .
(3) والتعبير القرآني : " وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ":
يشير إلى عائلتين من أهم العائلات النباتية، هما العائلة الزيتونية, والعائلة النخيلية, والأولى تشمل(22) جنساًً, و(500) نوعاً من أنواع الأشجار الزيتونية، وهي أشجار معمرة, فأشجار الزيتون تعيش لأكثر من ألفي سنة, وهي شجرة مباركة كما وصفها القرآن الكريم ونعتتها أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم .
أما العائلة النخيلية فتشمل(200) جنس, وأكثر من أربعة آلاف نوع من أنواع النخيل . والنخيل من أكثر النباتات احتمالاً للجفاف والملوحة, وتنمو في المناطق الحارة الجافة والمعتدلة, وثمارها ومنتجاتها تعتبر من أهم المصادر النباتية التي اعتمد عليها الإنسان في حياته منذ وطئت قدماه هذه الأرض .
(4) والتعبير القرآني: " حَدَائِقَ غُلْباً " :
أي حدائق عظاماًً, غليظة الأشجار، ملتفة الأغصان, لتشمل الغالبية الباقية من أنواع النباتات ـ خاصة نباتات الظل, والزينة, والأخشاب ـ كما تشمل الكثير من نباتات الثمار المختلفة التي لا تنضوي في المجموعات السابقة .
(5) أما التعبير القرآني: " وَفَاكِهَةً وَأَباًّ " :
فيركز على نباتات الفاكهة المختلفة التي لا تحتويها المجموعات السابقة ، مثل العائلات التوتية ـ وتشمل التين, والجميز, والتوت, وغيرها ـ والوردية ـ وتشمل المشمش, والخوخ, والبرقوق, والكريز, واللوز في تحت العائلة المشمشية, والتفاح, والكمثري, والبشملة, والسفرجل في تحت العائلة التفاحية ـ والسذبية ـ عائلة الموالح ـ وغيرها .
أما( الأب) فهو الكلأ والمرعى وما تأكله البهائم ـ كالأنعام ـ من العشب وغيره من أنواع النبات، رطباً كان أو يابساًً ( مثل التبن) .
وهكذا نرى في هذا التسلسل المعجز لخمس آيات قصار لا تشغل أكثر من سطرين استعراضاً لأهم النباتات التي تشكل الطعام الرئيسي لكلٍ من الإنسان وأنعامه, ولذا ختمت بقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : " مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ".
اتمنى ان يعجبكم الموضوع
دمتم في رعاية الله وحفظه