خفايا الخطايا
نسير في هذه الحياةِ ونحن نراقبُ اللهَ على قدر وُسعِنا وطاقتنا، وعلى قدر علمنا به تعالى ويقينِنا بلقائه، وهذا الشعورُ بالمراقبةِ يبعث في نفوسنا أحيانًا نوعًا من الرضا عن النفس، والإحساس بالاطمئنان للقاء الله، وأننا بإذن الله على صراطٍ مستقيم.
والحقيقة أن هذا الإحساس بالرضا عن النفس مبنيٌّ على الظن، وليس على علم ويقين، وهو كذلك مبنيٌّ على تزكيةٍ خفيَّة للنفس، يزيِّنها الشيطان كي يستكثر الإنسان عملَه القليل، لكنِ العالمون بالله تعالى يسيرون في هذه الحياة الدنيا وهم خائفون وَجِلُون، وليسوا على شاكلة أولئك الراضين عن أنفسهم وأعمالهم، فهم كما حكى الله عنهم: ﴿ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، وهم أبعدُ الناس عن تزكية أنفسهم، والرضا عنها، استجابةً منهم لتوجيه الله تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32].
إن الإحساس بالرضا عن النفس داءٌ قتَّال، قد يحدو بالمرء لنتائج لا تُحمد عُقباها كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104]، وعند قدوم هؤلاء على الله تعالى ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [الزمر: 47].
ولكي يتجنبَ المرءُ هذا المزلقَ الخطير؛ سنبين في هذه المقالة بعض خفايا الخطايا التي يقع فيها كثيرٌ منَّا، فتؤثر سلبًا في أعماله الصالحة؛ إما بإحباطها بالكلية، أو بإنقاص أجرها.
فمن خفايا الخطايا: طلبُ الثناء بعد العمل؛ إذ يعمل الإنسانُ العملَ وهو لا يريد به أثناء أدائه إلا اللهَ - فيما يحسب - لكنه يُفسده بعد ذلك، فأنت قد تخدم شخصًا ما؛ تحتسب بذلك الأجر عند الله، وإذا حدَث أنْ قصَّر ذلك الشخص في شكرك أو الثناء عليك أو الاعتراف بجميلك، يداخلك شعورٌ بازدرائه وذَمِّه بعبارات إيحائية أحيانًا، وتصريحية أحيانًا أخرى؛ ليذكر لك جميل صنعك وأياديك البيضاء عليه، ولو تجرَّدَ إخلاصُك، لَمَا بحثت عن الشكر والثناء، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9].
ومن خفايا الخطايا: وقوعُ العامل تحت تأثير عين الرضا أو عين السخط وهو لا يشعر، فقد تجد أحدَ الآباء أو الرؤساء في العمل أو غيرهم راضيًا عن أحدٍ ممن تحت يده ويعجبه عملُه، فيقع ضحيةً لذلك الإعجاب؛ فلا يرى أخطاءه أو يستصغرها، ثم بعد ذلك يجحف - وهو لا يشعر - في الحُكم له بما لا يستحقه من هبة أو تقييم أو ترقية أو غيرها، والله تعالى يقول: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [النساء: 58].
ومن خفايا الخطايا: العملُ للجزاءِ، وليس إخلاصًا لله، فبعض الناس يقرأ قوله تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، فيشكر الله تعالى وقلبُه منطوٍ على طلب الزيادة أكثرَ مِن أن الله مستحقٌّ لذلك الشكر وإن لم تحصل الزيادة، وبعضهم يَبَرُّ والديه والحافزُ الأكبر له على ذلك طلبُ بِرِّ أبنائه به، لا استجابة لأمر الله تعالى، وإن قصَّر أبناؤه في برِّه، وقِس على ذلك غيرها من الأمثلة.
ومن خفايا الخطايا: أن يبدأَ العمل لله ثم يتحول بعد وقت للناس، فبعض الناس مثلًا يداوم على طاعة معينة، كتكرار عمرة أو حج، أو عادة دورية لزيارة قريب أو عمل تطوعي، فيُعرف عنه ذلك العملُ ويشتهر به، فيتسلل إلى قلبه شعورٌ بعدم القدرة على ترك ذلك العمل لأجل الناس وكثرة أسئلتهم وإعجابهم به.
ومن خفايا الخطايا: طاعةُ المرأةِ زوجَها، وإحسانُها له طاعةً لله وإخلاصًا له، ومع ذلك تكون لها نية خفيَّة ألَّا يتزوَّج عليها!
وصلى الله على نبينا محمد