لن تُبحر في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إلا وستجد نبوءات دُرِّيـَّة تُغَذِّي قلبك باليقين، وتملأ روحك بالحنين، فها هو حديث يُخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين سيركبون البحر غزاةً في سبيل الله، ثم لم يلبث هذا إلا أن حدث بعد كلام النبي صلى الله عليه وسلم بسنوات.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا ذهَب إلى قُباءَ، يَدخُلُ على أمِّ حَرامٍ بنتِ مِلحانَ فتُطعِمُه، وكانت تحتَ عُبادَةَ بنِ الصامِتِ، فدخَل يومًا فأطعمْتُه، فنام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثم استيقَظَ يضحَكُ، قالتْ: فقلتُ: ما يُضحِكُكَ يا رسولَ اللهِ؟ فقال: "ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غُزاةً في سبيلِ اللهِ، يركَبونَ ثَبَجَ هذا البحرِ، مُلوكًا على الأسِرَّةِ، أو قال: مِثلَ المُلوكِ على الأسِرَّةِ"، فقلتُ: ادعُ اللهَ أن يجعَلني منهم، فدعا، ثم وضَع رأسَه فنام، ثم استيقَظ يَضحَكُ، فقلتُ: ما يُضحِكُكَ يا رسولَ اللهِ، قال: "ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غُزاةً في سبيلِ اللهِ، يركَبونَ ثَبَجَ هذا البحرِ، مُلوكًا على الأسِرَّةِ، أو: مِثلَ المُلوكِ على الأسِرَّةِ" فقلتُ: ادعُ اللهَ أن يجعَلني منهم، قال: "أنتِ من الأوَّلينِ"، فرَكِبَتِ البحرَ في زمانِ مُعاوِيَةَ، فصُرِعَتْ عن دابَّتِها حين خرجَتْ من البحرِ، فهلَكَتْ) [أخرجه البخاري (2788، 2789) واللفظ له، ومسلم (1912)، وأبو داود (2491)، والترمذي (1645)، والنسائي (3171)، وابن ماجه (2776)، وأحمد (27032)، من حديث أنس بن مالك].
وأُمُّ حَرامٍ رضِي اللهُ عنها هي أُمُّ حَرامٍ بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنمِ بن عديِ بن النجار الأنصاريَة، الخزرجية، النجارية، المدنية، أخواها سُليم ابن ملحان وحرام ابن ملحان رضي الله عنهما استشهدا في سبيل الله يوم بئر معونة، أما زوجها الأول فهو الصحابي الجليل عمرو بن قيس رضي الله عنه استشهد هو وولدها قيس بن عمرو رضي الله عنهما في غزوة أُحد، فتزوجها الصحابي الجليل عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أحد نقباء الإثني عشر الذين اختارهم الأنصار يوم العقبة الثانية بناء على طلب النبي صلى الله عليه وسلم، وأختها هي الصحابية الجليلة أم سليم رضي الله عنها الأنصارية الملقبة بالغُمَيْصَاءُ أو الرُّمَيْصَاءُ، والدة أنس ابن مالك رضي الله عنه خادم النبي صلى الله عليه وسلم.
إذًا فنحن أمام عائلة ياقوتية كان لهم حظ وخصوصية عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يزورهم ويدخل عليهم وينام عندهم لما لهم من القرابة والرحم والمخالطة، نحن أمام امرأة كجوهرة غير عادية، تنبأ لها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث أن تركب مع أول من يركبون البحر غزاة في سبيل الله.
يبدأ تحقق النبوءة بعد أن كان معاوية رضي الله عنه يلح على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غزو البحر لقرب الروم من حمص، ويقول له: "إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم". [الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2 / ص 600، ابن الأثير الكامل في التاريخ ج 2 / ص 488].
فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: "صف لي البحر وراكبه"، فكتب إليه عمرو بن العاص: "إني رأيت خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء، إن ركد خرق القلوب وإن تحرك أزاغ العقول، يزاد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، وهم فيه كدود على عود إن مال غرق وإن اعتدل برق". [الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2 / ص 600، ابن الأثير الكامل في التاريخ ج 2 / ص 488].
فلما قرأ الكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى معاوية رضي الله عنه: "والذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله في كل يوم وليلة أن يُـغرق الأرض فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر بالله - يعني أمير الروم -، لمسلم أحب إلي مما حوت الروم". [الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2 / ص 600، ابن الأثير الكامل في التاريخ ج 2 / ص 488].
فلما كان زمن عثمان رضي الله عنه كتب إليه معاوية رضي الله عنه يستأذنه في غزو البحر وألح عليه في ذلك، فأجابه عثمان رضي الله عنه، ولكنه احتاط فلم يجعل التجنيد إجباريًا بل جعله اختياريًا حيث قال: "لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيِّرهم فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعنه".
وبهذا أجاب عثمان رضي الله عنه، معاوية رضي الله عنه من جهة ومن جهة أخرى لم يُجازف بإرسال المسلمين فجعل التجنيد اختياريًا حتى إذا ما هُزموا لم يكن ملومًا والظاهر أنه كان لا يزال متأثرًا برأي عمر من حيث تخوفه من البحر، فأول أسطول جهزه المسلمون كان لغزو قبرص سنة 28 هـ تحت قيادة عبد الله بن قيس الحارثي رضي الله عنه ومعه جماعة من الصحابة أبو ذر رضي الله عنه وعبادة بن الصامت رضي الله عنه وزوجته أم حرام رضي الله عنها وأبو الدرداء رضي الله عنه، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر بسفن أقلعت من الإسكندرية فاجتمعوا عليها فصالحهم أهلها على جزية 7000 دينار كل سنة، يؤدون إلى الروم مثلها ولا منعة لهم على المسلمين ممن أرادهم من سواهم وعلى أن يكونوا عونًا للمسلمين على عدوهم ويكون طريق الغزو للمسلمين عليهم، وعلى ذلك أُخذت قبرص بسهولة. [الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2 / ص 600-601، ابن الأثير الكامل في التاريخ ج 2 / ص 488-489].
وفي هذه الغزوة ماتت أم حرام بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنها بعد خروجها من البحر حين ألقتها بغلتها بجزيرة قبرص فاندقت عنقها فماتت بعد تحقق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم لركوبها مع من يركبون البحر غزاة في سبيل الله، ودفنت في قبرص في البقعة التي بني عليها مسجد لارنكا الكبير ويعرف باسم قبر المرأة الصالحة.