لا أذكرُ الشتاءَ إلا وذكرتُ معه الدفءَ، فهل ينتابنا بَرْدُه حتى يتجلَّى لأعيننا حُسْنُ الأضداد؟! فإذا ما تغشانا الحرُّ لُذْنا بترويح البرودة، وإذا ما باغتنا البردُ تدثَّرْنا بدفء الحرارة.
فلماذا يشوب الطبيعة النقص دائمًا؟! فلا يكاد يصفو لها لون، أو يروقها مزاج، أو يكتحل في عينها هدوء، فما أشبه وجهها المتموِّج الغضوب الضحوك بوجه الحياة التي لا تكتمل على راحة، ولا تستقرُّ على حال، ولا يسكن لها اضطراب! أم إن النقص من طبع البشر، فليس له طاقة على استيعاب كمال الأشياء حواليه، فلا ينفكُّ يحاول التخفيف من وقعها في كل مرة ببعض المضادَّات حتى يحتمل ضعفُه قوةَ الأحداث وتدفُّقها وانهمالها في حلِّها وترحالها؛ ولكن أيُّهما أقرب لمشاعر الإنسان البرودة أم الحرارة؟ وهل يُجدي دفء المحل إن لامس ساكنيه صقيعُ المشاعر؟!
وهل يضايق الحرُّ بعضَ البشر إن كان يُوافق حرارة عواطفهم وتوهُّجها؟! وهل الالتفاف والمزاحمة حول ما تحنو به جمراتُ الموقد الشتوي من هبات حرارية لطيفة، يكون ذلك لأجل دفء الأجساد أم لأجل دفء الفؤاد؟! ولماذا ترسل السكينة العائلية حينها دفئها للأرواح، فتزيد تآلُفَها وتشابُكَها وتوافقها في تجاذُب شتوي أخَّاذ؟! لتكون بعدها قسوة الطبيعة أشبه ما تكون بقسوة الأُمِّ، نرى في عينيها الحنو والأمان وهي في غمرة غضبها واتِّقادها، ولا نملك إلا أن نهرع إليها إذ ما راعنا مرآها، واجتاحتنا المخاوف من سهام عتابها، ونمدُّ لها الأيادي فنتشبَّث بأثوابها، نستدرُّ عفوها وتحنانها، فلا تمكث إلا أن تنهمر بزخات ترنيمها الشفوق في شال حريري ناعم يحملنا إلى مأمن لجي شفَّاف، نسبح في غيباته تمامًا كفراشات الربيع تطفو على زهور عطرية يطول شذاها كُلَّ مَنْ تستغرق نفسه جميل الذكريات الماكثة في تلافيف ريحها المنساب على المارَّة، حينها فقط يتبيَّن للنفوس أن بعض القسوة هي الجمال نفسه حيث نستشف المتعة من قلب الحرمان، والسعادة من قلب الوجع، والدفء من قلب الشتاء، واللملمة من قلب الشتات.
#منقووووووووول